حوار مقتبس من صفحة د. عبدالرحمن العباسي، والاحداث العسكرية والسياسية الاخيرة فيما يخص دولة الإمارات و الراهن السياسي في السودان
في هذا الحوار الجريء، نفتح نافذة فكرية وسياسية مع الدكتور عبدالرحمن عمسيب، المفكر السوداني المعروف، ومؤسس منظمة “البحر والنهر”، التي تطرح واحدة من أكثر الأطروحات جدلاً في راهن السياسة السودانية: انفصال أقاليم الوسط والشمال والشرق عن دارفور كخيار جذري لإنهاء دوامة الحرب وعدم الاستقرار التي عصفت بالبلاد لعقود.
تنطلق هذه الرؤية من قراءة تاريخية جذرية لبداية الأزمة، منذ حملات عبد الله التعايشي ضد سكان وسط وشمال السودان أو من يسمون بـ”الجلابة”، مرورًا بتمردات الحركات المسلحة الدارفورية، وانتهاءً بحرب 15 أبريل، التي يعتبرها د. عمسيب تجليًا أكثر وحشية لصراع مزمن، تماهت فيه ثقافة التمرد مع حمل السلاح كأسلوب حياة، وتفاقمت بانهيار الثقة بين مكونات الوطن.
في هذا الحوار، نناقش مع د. عمسيب القضايا الساخنة المرتبطة بالقرار الأخير لمجلس الأمن والدفاع باعتبار الإمارات “دولة عدوة”، وتأثيره الكارثي على السودانيين في الخليج، وخاصة في الإمارات، كما نتناول جدل بنك الخرطوم، والاتهامات التي تلاحقه، وردّه على التشكيك في مواقفه ووطنيته.
في البدء نود الحديث عن مصير مواطني السودان في دولة الإمارات العربية المتحدة بعد قرارات حكومة السودان باعتبار الأولى دولة معادية؟
في الحقيقة.. ووفق تقديرات وإحصائيات فإن السودانيين المغتربين بدولة الإمارات يتجاوزون الـ300 ألف مقيم، منهم أكثر من 260 ألفًا من مواطني وسط وشمال السودان، وهم المتضررون الأكبر، فأغلب سكان نهر النيل والبحر الأحمر يفضلون الاغتراب في الخليج بشكل عام. نحن إذن نتحدث عن مصالح آلاف الأسر ومصادر رزقهم، والتي لن تُعوض في حال فقدانها، ما سيشكل كارثة جديدة لأبناء النيل والبحر، تفاقم معاناتهم ومعاناة أسرهم بشكل يفوق الوصف.
ونقول بكل وضوح: إذا كانت الدولة مستعدة للتضحية بمصير 300 ألف سوداني مغترب، وتُعرّض استقرارهم ولقمة عيشهم للخطر تحت ذريعة إنقاذ ما يُسمى بالدولة، فالأولى بها أن تُضحّي بالمجتمعات التي تقاتلها على أساس عرقي منذ اندلاع الحرب. لماذا تُضحّى بمستقبل أبناء الوسط والشمال وشرق السودان، وهم الذين وقفوا مع الدولة والجيش منذ اليوم الأول، في حين يتم التغاضي عن مليشيات “العطاوة” التي تهاجم الجيش، وتُمارس انتهاكات مروّعة ضد مواطني الوسط والشمال بشكل يومي؟
إذا كان لا بد من التضحية بمجتمع ما لإنقاذ الدولة، فإن مليشيات العطاوة ومجتمعاتها المتمردة أولى بالرد والانتقام، فهم من يزرعون الموت والخراب ويهينون الجيش والمواطن على حد سواء، بينما أبناء النهر والبحر يدفعون ثمنًا لا طائل له سوى المزيد من الإذلال.
دعنا ننتقل للنقطة الأكثر جدلاً هذه الأيام: قرار مجلس الأمن والدفاع باعتبار دولة الإمارات العربية المتحدة دولة عدوة. كيف تقرأ هذا القرار؟
قرار اعتبار الإمارات دولة عدوة يجب أن يُراجع فورًا، لأنه يحمل أثرًا فادحًا على السودانيين المقيمين هناك وخصوصا مواطني وسط وشمال السودان، فهم كما ذكرنا يمثلون أغلبية ضمن مغتربي الإمارات والخليج بشكل عام، مقابل تفضيل أبناء الغرب للهجرة إلى أوروبا وأمريكا، وهو شيء يمكن فهمه ببساطة للطبيعة الثقافية،
والضرر هنا أعظم على هؤلاء المواطنين لا على الإمارات نفسها.
نحن نتحدث عن جالية سودانية ضخمة، تقارب 260 ألف شخص، تعتمد يوميًا على خدمات قنصلية مثل استخراج الجوازات، الرقم الوطني، توثيق المستندات… إلخ. هؤلاء مهددون بالتيه الإداري والقانوني إذا قُطعت العلاقة الدبلوماسية.
ومن جهة أخرى، السوداني الذي يعمل في جهة حكومية أو شبه حكومية إماراتية سيكون في نظر القانون الإماراتي موظفًا لدى “دولة عدوة”! هل ندرك ما يعنيه هذا؟ هذه ليست نكتة، بل خطر حقيقي على مستقبل الناس.
- دعنا نطرح أسئلة على الفريق أول البرهان ومن معه:
- ما مصير مئات الآلاف من السودانيين في الخليج؟
- ما مصير استثماراتهم، تحويلاتهم، وأسرهم؟
- من سيعوض هؤلاء إن عادوا؟ هل تملك الدولة حلولًا؟ هل ستسكنهم في بورتسودان؟ وهل تعرف الدولة كم تبلغ تكلفة المعيشة هناك؟
المشكلة ليست في العداء السياسي فقط، بل في غياب البديل الواقعي. لا تقطعوا شريان حياة المواطنين دون تجهيز طريق بديل آمن.
في هذا السياق، ظهرت إشاعات كثيرة عن نية الحكومة وقف التعامل مع بنك الخرطوم بدعوى ارتباطه بالإمارات. ما موقفك من هذا؟
والله غالبًا من يتحدثون عن وقف التعامل مع بنك الخرطوم علاقتهم الوحيدة بالمصارف هي تطبيق “بنكك” ودفع فواتير الكهرباء!
الواقع يقول إن بنك الخرطوم اليوم أهم من بنك السودان نفسه بالنسبة لحياة المواطن اليومية. هو شريان مالي ضخم، يربط مئات الآلاف من السودانيين بالتحويلات، المرتبات، المدفوعات، وحتى بالأمل.
إدخال هذا البنك في تصفية الحسابات السياسية هو انتحار اقتصادي جماعي. لا أحد مستعد أن يتحمل تبعات ذلك سوى المواطن البسيط.
عزيزي صانع القرار، إذا كنت تصرّ على تفكيك بنك الخرطوم، قدّم البدائل أولًا، ابنِ منظومة مالية موازية، ثم اتخذ قرارك… أما أن تهدم البيت على من فيه، فهذه ليست سياسة، بل فوضى.
هناك من يتهمك دكتور بالتآمر، وبأن مواقفك تصب في صالح أجندات خارجية، أو أنك “عميل”. ما ردك؟
كي أكون واضحًا: لست مشغولًا بإرضاء أحد، ولا أبني مواقفي على مزاج الجماهير أو إرضاء الغوغاء. أنا معني فقط بقول ما أراه صوابًا، وفق تعريف صارم للمصلحة العامة، لا وفق صراخ الفيسبوك أو “تريندات تويتر”. لقد تعوّدت الشتائم. وتعوّدت أن أقف حيث أعتقد أن الحقّ يقف.
هل تتفق مع من يبرر قرار قطع العلاقات مع الإمارات بأنه لمصلحة 40 مليون سوداني؟
هذا منطق أعوج. الحقيقة أن القرار سياسي ومعنوي فقط، لا يمسّ الإمارات في شيء، لكنه يدمّر حياة السودانيين المقيمين فيها. لنكن واقعيين، نحن نتحدث عن 300 ألف سوداني في الإمارات، ومليون من ذويهم داخل السودان، سيتأثرون مباشرة. كيف يمكن أن نُضحي بهم جميعًا من أجل “رمزية معنوية” أو شعار فضفاض؟
ثم إذا كان هذا هو المعيار، فاقطعوا علاقتكم ببريطانيا، فرنسا، وألمانيا أيضاً، فهي دول وقفت بوضوح ضد مصالح السودان. لكنكم لا تجرؤون.
اقرأ ايضا: خروج حركات دارفور المسلحة قضية رأي عام : جريمة الدبة !
فشل السودان قانونيًا في تقديم قضية ضد الإمارات في محكمة العدل الدولية أثار كثيرًا من التساؤلات، كيف تفسر ذلك؟
ببساطة: هذه حكومة عاجزة، فشلت في بناء قضية قانونية متماسكة. المرافعات التي قُدمت في الأمم المتحدة كانت خطبًا حماسية لا تصلح حتى لندوة طلابية، ناهيك عن استخدامها في ميزان القانون الدولي.
لقد قلنا منذ 13 أبريل بوضوح:
أول خطوة ضرورية هي إدانة قادة المليشيا أمام المحكمة الجنائية الدولية بارتكابهم جرائم إبادة جماعية. هذه الإدانة تُعتبر حجر الزاوية لأي تحرك دولي قانوني لاحق. بعدها، يمكن بناء الملف ضد الدول الداعمة من خلال تتبع التمويل، التسليح، الدعم الإعلامي واللوجستي… لكن ذلك لم يحدث.
ببساطة لدينا مشكلتان:
- السودان لم يوقّع على ميثاق روما، ويرفض التعاون مع الجنائية الدولية، مما يُضعف قدرته على التحرك قانونيًا ضد أي طرف.
- المستندات التي قُدمت ضد الإمارات في محكمة العدل لا ترقى لمستوى “الأدلة”، هي قرائن وظنية، لا قيمة قانونية حقيقية لها.
إذا كان الهدف من التحرك مجرد الضغط الإعلامي، فهو مفهوم. لكن إن كنا نبحث عن عدالة حقيقية، فقد أخفقنا إخفاقًا مدويًا.
كيف ترون مستقبل السودان في ظل هذا الطرح الجذري الذي تقدمونه؟ وما هي رؤيتكم تجاه السياسة الخارجية والاقتصادية في حال تحقق مشروع “حل النهر والبحر”؟
مشروع “حل النهر والبحر” ليس فقط حلاً طارئًا للصراع، بل هو مشروع سياسي متكامل وجذري، لأنه المشروع الوحيد المطروح حاليًا في السودان الذي يحمي مصالح المواطنين الحقيقيين في هذه المناطق ويضع نهاية لدائرة الكراهية والدم والإبادة التي تتكرر كل جيل.
ما نطرحه ليس انفصالًا هروبيًا، بل تأسيس واقع سياسي جديد يحرر ما يُعرف بـ”السودان المفيد” من الابتزاز والقتال والموت المجاني. واقع جديد يُبنى على رؤية سياسية واقتصادية متزنة، تُعيد توزيع السلطة والثروة بعد أن ظلت مختطفة لصالح مشاريع أيديولوجية أو انتقامية.
اقرأ ايضا: العودة إلى سنار : دعوة لتأسيس الحلم من الجذور
نقولها بوضوح: لسنا ضيوفًا في هذه الأرض. نحن أصحابها الأصليون منذ الأزل. أبناء النهر والبحر هم الورثة الشرعيون لحضارات السودان، من نبتة ومروي إلى سنار، وهم من بنوا السودان الحديث بدمائهم وجهدهم ومؤسساتهم.
في المقابل، دارفور والجنوب — الذي انفصل مؤخرًا — لم يكونوا جزءًا من السودان أصلًا، بل كانت دارفور سلطنة مستقلة حتى العام 1916م، حين ضمّها المستعمر بالقوة بعد حملة الزبير باشا رحمة عام 1873، وكذلك كان الجنوب مفصولًا إداريًا وثقافيًا.
لذلك، فإننا نرفض خطاب “الهامش والمركز” الذي يُستخدم اليوم كذريعة لمشاريع تهجير العرب من أرضهم، بزعم أنهم “وافدون”. هذا نفس المنطق الذي تم استخدامه في زنجبار، واليوم نسمع من بعض ناشطي الحركات المسلحة تهديدات مباشرة تقول: “إما الخضوع أو نعيد سيناريو زنجبار”. هذه ليست دعوات تحرير، بل مشاريع تطهير عرقي وإعادة كتابة التاريخ.
أما في تصورنا للعلاقات الخارجية، وخاصة مع دول الخليج، فنحن نعتمد نهجًا براغماتيًا نفعيًا، بعيدًا عن الأيديولوجيا، ما يمنحنا مساحة لبناء شراكات اقتصادية واستراتيجية قائمة على المصالح المتبادلة. الخليج، بالنسبة لنا، ليس خصمًا ولا جهة استعداء، بل حليف طبيعي لدولة مواطنة مستقرة وقادرة على خلق فرص تنمية حقيقية في السودان المفيد.
اقرأ ايضا: معسكر زمزم للحركات أم للنازحين؟ المعضلة الأخلاقية للحركات المسلحة في الفاشر !
وانت.. ما هو رأيك؟
المصادر: أول
تعليق واحد
أفكار مرتبه