في سابقة خطيرة تمس جوهر دولة القانون وتهدد حرية التعبير والصحافة، تعرض الصحفي السوداني عطاف عبد الوهاب التوم لعملية اختطاف صادمة عبر حركة العدل والمساواة التي يقودها جبريل إبراهيم، دون أن يصدر حتى الآن أي توضيح رسمي حول مصيره أو مكان احتجازه. أكثر من أسبوعين مرّا على اختفائه، والأسرة تعيش في قلق مستمر، لا تعرف إن كان حيًّا أو في قبضة من؟ وهل هو آمن أم يواجه مصيرًا مأساويًا كالذي واجهه شقيقه الدكتور إيهاب عبد الوهاب، الذي استشهد مؤخرًا في معتقلات قوات الدعم السريع عطشًا وقهرًا.
الصحفي في قبضة المليشيا… لماذا؟
الوقائع التي سبقت اختطاف عطاف تشير إلى دوافع انتقامية. فقد وجّه الصحفي المعروف مؤخرًا انتقادات مباشرة إلى قيادة حركة العدل والمساواة، اتهم فيها جبريل إبراهيم وزميله عبد العزيز عشر بالفساد، واحتكار القرار السياسي داخل الحركة ووزارة المالية، إلى جانب تعيين الأقارب في المواقع الحساسة للدولة، والتقاعس عن القتال في جبهات مثل الفاشر.
ردّ الفعل على تلك الانتقادات لم يأتِ عبر القنوات القانونية كما تفترض الدولة المدنية، بل اتخذ طابع الميليشيات. فالصحفي، الذي كان قد انضمّ سابقًا إلى حركة العدل والمساواة وأدى القسم في تسجيل مصوّر، وجد نفسه في مواجهة قمع قسري بعد اختلافه مع قيادة الحركة. وبدلاً من اللجوء إلى الحوار أو اتباع الإجراءات المؤسسية، أو حتى رفع دعاوى قانونية ضده، لجأت الحركة إلى اختطافه من منزله عنوة، ولا يزال مصيره مجهولًا حتى الآن.
لا سلطة للحركات المسلحة لاعتقال أي مواطن
ما حدث مع عطاف لا يُعد “اعتقالًا”، لأنه لا يستند لأي إجراء قانوني أو قضائي، بل هو اختطاف قسري صريح. وهنا لا بد من توضيح نقطة قانونية مفصلية: الحركات المسلحة ليست جهات مخوّلة بموجب القانون السوداني أو الدولي بممارسة الاعتقال أو التفتيش أو التحقيق.
وفقًا للمبدأ الدستوري والقانوني المعروف، الضبطية القضائية هي صلاحية تمنح فقط لـ:
- الشرطة، بصفتها الجهة المنوط بها حفظ الأمن الداخلي.
- القوات المسلحة، ولكن فقط في حالات الحرب أو الطوارئ، وبتفويض قانوني واضح.
- بعض الأجهزة الأمنية، ولكن تحت رقابة السلطة القضائية، ولمهام محددة.
أما الحركات المسلحة فهي ليست جزءًا من النظام العدلي، ولا تملك أي سلطة قانونية تتيح لها اعتقال أو استجواب أو احتجاز أي مواطن، مهما كانت دواعيها السياسية أو الأمنية. وأي تصرف من هذا النوع يُصنّف قانونًا على أنه:
- جريمة اختطاف واحتجاز غير مشروع.
- انتحال صفة سلطات رسمية.
- اعتداء على سيادة الدولة وهيبتها القانونية.
إن ممارسة الاعتقال خارج القانون لا تختلف عن أساليب المليشيات والأنظمة القمعية التي استخدمت أدوات الترهيب لتقويض سلطة القانون واحتكار العنف المشروع. ما فعلته حركة العدل والمساواة مع الصحفي عطاف عبد الوهاب يُذكّر السودانيين بشكل مباشر بممارسات قوات الدعم السريع (المعروفة سابقًا بالجنجويد)، والتي اشتهرت باختطاف المدنيين، واحتجازهم في معتقلات سرية، وإخضاعهم للتعذيب أو القتل خارج القانون، كما حدث في حالة الدكتور إيهاب عبد الوهاب.
في فترة صعودها، أنشأت قوات الدعم السريع ما يُعرف بـ”الدولة داخل الدولة”، حيث كانت تملك أذرعًا أمنية واستخبارات خاصة، ميزانيات مستقلة، وتحركًا خارج سلطة الجيش والشرطة. وقد تورطت هذه القوات في جرائم موثقة من اعتقالات تعسفية، وإخفاء قسري، وقتل تحت التعذيب، وعمليات إعلامية تستهدف تشويه المعارضين، كل ذلك دون مساءلة قانونية.
المفارقة المؤلمة اليوم، أن حركة “نشأت في الأصل لمناهضة الظلم”، كحركة العدل والمساواة، باتت تستنسخ ذات النموذج الذي قاتلته في بداياتها، بدءًا من الخطف خارج القانون، إلى تشغيل إعلاميين لتلميع صورتها، إلى بناء أجهزة موازية تتحرك بمعزل عن مؤسسات الدولة الرسمية. والأنكى من ذلك، أن كل هذه الممارسات تُنفّذ داخل مدن آمنة مثل بورتسودان، لا في مناطق نزاع أو تماس عسكري، ما يُعد تمردًا غير معلن على مؤسسات الدولة ومبدأ السيادة القانونية.
تجربة الدعم السريع أثبتت فشلها، وجرّت البلاد إلى فوضى دموية وانقسامات حادة، دفعت ثمنها الأرواح والمستقبل. تكرار نفس السيناريو من قِبل الحركات المسلحة، تحت لافتة “الشرعية الثورية” أو “السلطة التفاوضية”، هو انتحار سياسي وأخلاقي، وتهديد مباشر لما تبقى من مؤسسات الدولة.
اقرأ ايضا: نهاية اتفاق جوبا : سقوط قناع الحركات المسلحة وسيناريوهات التمرد الجديد
أين الدولة؟ أين الجيش؟
الأسئلة تتزايد: كيف يمكن لحركة مسلحة أن تنفذ عملية اختطاف صحفي في مدينة آمنة كـ بورتسودان، بل في نطاق قريب من القصر الرئاسي، دون تدخل من السلطات؟ ولماذا تصمت الجهات الرسمية – الجيش، الشرطة، النيابة – على هذا الانفلات الأمني؟ إذا كانت الحركات المسلحة قد بدأت تنفذ عمليات أمنية داخل المدن وتحتجز المواطنين دون مساءلة، فما الفرق بينها وبين مليشيا الجنجويد أو الدعم السريع؟
إن إعادة إنتاج هذا النموذج المليشياوي داخل مؤسسات الدولة هو تكرار للكوارث التي قادت السودان إلى التدهور والانقسام والفوضى. وجود أجهزة أمنية واستخباراتية موازية للجيش والشرطة، وميزانيات مستقلة، وأذرع إعلامية مأجورة، كلها مؤشرات على انهيار هيبة الدولة، وهو ما يجب أن يُواجه فورًا قبل فوات الأوان.
مناشدة الأسرة: صوت يغالب القهر
في بيان إنساني مؤلم، ناشدت أسرة الصحفي عطاف عبد الوهاب، السيد جبريل إبراهيم – باعتباره المسؤول الأول عن الحركة – بالإفراج الفوري عنه، وتحميله كامل المسؤولية عن أي ضرر يلحق به. البيان أشار إلى حجم الألم الذي تعيشه الأسرة بعد استشهاد الابن الآخر، الدكتور إيهاب، على يد قوات الدعم السريع، وهو ما يجعل من اختطاف عطاف مأساة مركّبة تستدعي الاستجابة الفورية والإنسانية.
على الصحفيين ألا يصمتوا
واحدة من أكبر الإخفاقات التي رافقت هذه الحادثة، هو صمت كثير من الصحفيين والمؤسسات الإعلامية، الذين تأخروا في التضامن مع زميلهم، وكأنهم ينتظرون إشارة سياسية. هذا التخاذل يُضعف مصداقية المهنة، ويعطي الضوء الأخضر لاستمرار هذه الانتهاكات. الدفاع عن عطاف هو دفاع عن كل صحفي، وعن حق المجتمع في معرفة الحقيقة.
اقرأ ايضا: العشوائيات في السودان: مهددٌ أمني واجتماعي يجب اقتلاعه من الجذور
كلمة أخيرة: لا شرعية بلا قانون
لا توجد دولة في العالم تحترم نفسها تسمح لفصيل مسلح، غير منضبط قانونيًا، باعتقال أو احتجاز مواطنين. اختطاف عطاف عبد الوهاب جريمة يجب أن يُحاسب عليها كل من شارك فيها أو تستر عليها، وعلى الدولة أن تعيد ضبط المعادلة: إما دولة قانون ومؤسسات، أو لا دولة على الإطلاق. على المجتمع السوداني، المدني والعسكري، أن يدرك خطورة نموذج الدولة المليشياوية، وألا يسمح بتكراره تحت أي مسمى. لا أحد فوق القانون، ولا يجوز لأي جهة مسلحة أن تنصّب نفسها قاضيًا وجلادًا ومحققًا في آنٍ واحد.
الحرية لعطاف عبد الوهاب، العدالة لإيهاب عبد الوهاب، والكرامة لكل مواطن سوداني.
صفحة عطاف: فيسبوك