Site icon الديوان

الجنجويد ودارفور: أخلاق الغابة في مجتمعات الصحراء

مقاتلون يقودون آليات عسكرية في السودان جنجويد عرب داروفور (أ.ف.ب)

مقاتلون يقودون آليات عسكرية في السودان جنجويد عرب داروفور (أ.ف.ب)

بين صخب الأخبار اليومية ومشاهد النزوح والدمار في دارفور، يبرز سؤال محوري: هل الجنجويد مجرد ميليشيا؟ أم أن خلفهم تقف منظومة اجتماعية وقيمية تبرر العنف وتُكرّس الوحشية؟ هذا المقال لا يسعى لتبرير أو تعميم، بل لقراءة متأنية في البنية العميقة لمجتمعات عرب دارفور التي أنجبت الجنجويد، لفهم ما إذا كان ما نشهده هو خلل فردي عابر أم تعبير عن أزمة أخلاقية جمعية.

أخلاق جنجويد دارفور: من الإنسانوية إلى الوحشية

ليست الأخلاق حكرًا على دين أو ثقافة أو مجتمع بعينه، بل هي بناء اجتماعي متغير يتشكّل عبر الزمن. القيم مثل الصدق، الأمانة، النزاهة، الكرم، والاحترام تُعد من المُطلقات الأخلاقية التي تتشاركها البشرية عمومًا، وتُعد معيارًا لقياس رقيّ الإنسان والجماعة (UNESCO, 2021). حتى المجتمعات الملحدة تتبنّى طيفًا من هذه القيم، في إطار ما يُعرف بالإنسانوية (Humanism)، وهي حركة فلسفية ترى في الإنسان مركزًا للأخلاق والمعنى. لكن حين تُفقد هذه القيم الجماعية، تظهر مجتمعات أقرب إلى ما وصفه توماس هوبز بـ”أخلاق الغابة”، حيث الحياة “منعزلة، فقيرة، وشريرة، وهمجية، وقصيرة”.

من هم عرب دارفور؟

عرب دارفور، أو ما يُعرف بالقبائل العربية في الإقليم، يمثلون طيفًا واسعًا من المجتمعات الرعوية الرحّل الذين عاشوا قرونًا في الهضاب الجافة والصحارى الممتدة غرب السودان. هم ليسوا مجتمعًا واحدًا، بل يتوزعون على قبائل متعددة كالمهرية والمحاميد والتعايشة وغيرهم. وقد شكّلت طبيعة حياتهم الصحراوية، المبنية على الترحال والنجاة من بيئة قاسية، ملامح شخصيتهم الجماعية. التحديات البيئية هذه لم تُنتج فقط مهارات النجاة، بل صاغت أيضًا نظامًا قبليًا مغلقًا يُعلي من رابطة الدم ويحتكم لشيوخ العشائر، وهو ما جعل الأخلاق في هذه المجتمعات جماعية وليست فردية، تُقيَّم بمقدار ما يخدم مصلحة القبيلة، لا بما يتفق مع معيار كوني للصواب والخطأ.

الجنجويد في دارفور : ميليشيا أم مرآة مجتمعية؟

مصطلح “الجنجويد” أصبح اليوم رمزًا للعنف والنهب والاغتصاب، لكنه في جوهره نتاج اجتماعي وسياسي لمجتمعات عرب دارفور. هؤلاء ليسوا عناصر مرتزقة فحسب، بل أبناء بيئات ترى في النهب غنيمة، وفي القتل شجاعة، وفي الاغتصاب انتصارًا. هناك أمهات تستقبل أبناءهن العائدين من معارك الخرطوم أو الجزيرة بالزغاريد، رغم أنهم نهبوا، وقتلوا، واغتصبوا. يتم الاحتفاء بالغنائم، لا استهجان الجريمة. هذا الانحراف في المنظومة الأخلاقية الجمعية يتطلب دراسة عميقة، لأنه لا يمثل خيانة لقيم سامية، بل استمرارًا لمنظومة اجتماعية تُبيح وتُبرر.

اقرأ ايضا: العودة إلى سنار : دعوة لتأسيس الحلم من الجذور

هل الفقر والرحل سبب ذلك؟

من السهل أن نُرجع كل سلوك اجتماعي إلى الفقر أو الترحال، لكن هذه نظرة اختزالية. هناك مجتمعات سودانية فقيرة ورحّل مثل الكبابيش، الهواوير، الرشايدة، والكواهلة، ومع ذلك يشتهرون بالكرم والحياء وعلوّ الأخلاق. إذًا، ليست البداوة ولا الفقر هما السبب المباشر، بل السياق الثقافي والتاريخي. مجتمعات الجنجويد، أو عرب دارفور الذين يشكّلون حواضنهم، لم يتطوروا داخل منظومة قيمية تقوم على الإسلام بمعناه الحضاري، أو حتى على منظومة إنسانوية تجرّم الإذلال والاستعباد، بل تشكّلت في بيئة قبلية مغلقة تتوارث العنف والهيمنة كقيم بطولية.

تراكم تاريخي من العنف

لا يمكن فهم عنف الجنجويد دون استحضار التاريخ. فالجنجويد هم الامتداد الطبيعي لجهاديي المهدية الذين مارسوا القتل والسبي والإبادة بحق شعوب السودان الأوسط والشرقي. إنهم أحفاد التعايشة الذين أحرقوا القرى وأفسدوا الزرع والضرع. هذا العنف ليس طارئًا، بل هو جزء من الوعي الجمعي، المعبأ بالكراهية والرغبة في التشفّي من الآخر، لا لسبب ديني أو سياسي، بل لأنه “آخر” فقط. والآخر هنا قد يكون مختلفًا في اللون، أو اللهجة، أو الزي، أو النسب.

دارفور ليست ضحية واحدة

من الملاحظ في الخطاب العام أن دارفور تُقدَّم كضحية موحدة، في حين أن الواقع أكثر تعقيدًا. فبعض عرب دارفور – حواضن الجنجويد – كانوا جزءًا من آلة القتل، لا ضحيته. لقد مارسوا التطهير العرقي ضد الزرقة، والفراتيت، والمساليت، والزغاوة، وغيرهم. وهم لا يزالون يبررون هذه الجرائم باعتبارها دفاعًا عن الأرض أو الشرف أو القبيلة. وهذا ما يجعل من مشروع المحاسبة والمصالحة في دارفور أمرًا بالغ التعقيد، لأن الضحية في مكان قد يكون جلادًا في مكان آخر.

من أين نبدأ؟

التغيير يبدأ بالاعتراف. لا يمكن بناء دولة جديدة على أنقاض الإنكار. نحتاج إلى توصيف صادق وجريء لما حدث ويحدث، دون مواربة. يجب تسمية الجناة بأسمائهم، وتحديد المجتمعات التي أنتجتهم، ليس من باب العنصرية، بل من باب المساءلة والتطهير الأخلاقي. يجب أن نفهم أن القيم المجتمعية تُصنع، وتُعاد صناعتها، وأن مجتمعات عرب دارفور بحاجة إلى ثورة أخلاقية لا تقل عن الثورة السياسية.

من أجل مستقبل مختلف

إذا أردنا لدارفور أن تخرج من نفق الدم، يجب أن نُحرّر الأخلاق من قبضة القبيلة. يجب أن نُعيد الاعتبار لقيم مثل التسامح، المساواة، واحترام الإنسان لكونه إنسانًا فقط. هذه ليست شعارات مثالية، بل ضرورات وجودية لبناء مجتمع جديد، ودولة مدنية تتجاوز ثنائية المركز والهامش. كما أن التاريخ لن يرحم من يبرر الإبادة أو يسكت عنها، وهو ما عبّر عنه جورج سانتايانا بقوله: “إن أولئك الذين ينسون تاريخهم محكوم عليهم بتكراره”.

اقرأ ايضا: من العنصرية إلى الوعي السياسي: قراءة في مفاهيم التعايش والاختلاف


مصادر ومراجع:

Exit mobile version