تراجيديا الإنسان، وحنين الأمكنة.. ومن رحم الابتلاء يولد الخير.
بنهاية هذه الحرب، تُطوى صفحة أسطورة الخرطوم، أو هكذا ينبغي. تنتهي رواية العاصمة التي احتكرت السياسة والاقتصاد والثقافة والخدمات لعقود، ليس بإرادة أهلها، بل بقرارات الحكومات المتعاقبة التي حمّلتها فوق طاقتها، وفرضت عليها دورًا لم تختره، فصارت مركزًا متضخمًا لدولة تجاهلت الأطراف وهمّشت الأقاليم. تسدل الستارة على إرث المدينة المركزية، حيث تكدّست السلطة والثروة، وتركزت الصناعة، وتجمّعت المؤسسات، حتى غدت الخرطوم قبلة للجميع: قبلة التعليم، والعلاج، والتجارة، والترفيه، وقِبلة الأحلام التي صادرتها الدولة المركزية من كل ولاية وجهة. واليوم، قد تكون بداية لعودة العاصمة لأصحابها، وتمهيدًا لإصلاحها بهدوء، عبر إزالة العشوائيات، وإعادة إحيائها كعاصمة تاريخية للدولة.
نهاية “الأسطورة المفروضة”
ها هي تنتهي أسطورة الخرطوم ـ لا التي صنعها أهلها، بل التي فُرضت عليهم ـ العاصمة التي احتضنت كبرى الجامعات والمستشفيات، والشركات الضخمة، وحركة الاستيراد والتصدير، والمناطق الصناعية، ومؤسسات الإعلام، ومقار الأحزاب، والمطارات، والبنوك، والأندية، والمسرح، والمتاحف، والمكتبات. تنتهي عاصمة النخبة، ومراكز القرار، وصفقات السفارات، ومصانع العملاء، وسهرات الفنانات، وصراخ الفمينستات حليقات الرأس، وهمهمات قاع المدينة المتخم بالتناقضات والانفصام.
لقد كشفت الحرب هشاشة هذا التمركز، وأماطت اللثام عن عقود من سوء توزيع للثروات والخدمات، وعن عجز الدولة ـ بل فشلها المتراكم ـ عبر ثلاثين عامًا من الحكم وثلاثين أخرى قبلها. فالولايات ظلت تعاني من غياب البنية التحتية، ورداءة الصحة، وهشاشة التعليم، وانعدام الطرق، وضعف الاتصالات. لا مطارات تليق، ولا مستشفيات، ولا مؤسسات اقتصادية متماسكة. كل شيء أُحيل إلى العاصمة، حتى خُنقت، فخنقت معها البلاد كلها.
اقرأ ايضا: “الحواكير للدارفوريين فقط: كيف يستعمر ابناء دارفور أرض النيلين تحت غطاء المساواة”
الخرطوم: أرضٌ لها أهلها ومجتمعها
ليست الخرطوم أرضًا سائبة ولا فضاءً بلا جذور؛ إنها حاكورة لها أصحاب، وناس، وقبائل ضاربة في عمق التاريخ. الخرطوم القديمة لم تكن مجرد ملتقى نيلين، بل كانت حضنًا لقبائل الجموعية، والمجانين، والبطاحين، والرباطاب، والشايقية، والدناقلة، والبديرية، والجعليين، وغيرهم من المكونات التي شكلت النسيج الحي للمدينة، وتعايشت في أحيائها الأولى: الخرطوم بحري، وأم درمان، والخرطوم. هم أهل الموردة وبيت المال، والديوم، والمقرن، واللاماب، والجريف، والعزوزاب، وامتداد ناصر وامتداد الدرجة؛ من زرعوا فيها الحياة، واحتملوا طين النيل وغباره، قبل أن تبتلعها الدولة المركزية وتُفرغها من معناها.
هؤلاء هم أكثر من دفع ثمن “القومية السودانية”، حين تحولت عاصمتهم إلى نقطة جذب لكل طامع، ومسرح للصراعات السياسية والاقتصادية، ومأوى للغزاة والمجرمين والمهربين وتماسيح السوق. سُرقت المدينة من وجدانهم، وغُيبت هويتها الحقيقية، وزُيفت ملامحها حتى لم تعد تشبههم. تحولت الخرطوم من مدينة حيّة بنبض أهلها إلى مسرح مفتوح للغرباء، ومن الحاكورة التي لها أهلها، إلى غنيمة تتقاسمها أيدي السلطة والخراب. وفي خضم الحرب الأخيرة، كانوا أول من فقد بيته، وتاريخه، ومقابر أجداده، وحدائق طفولته، وسكينة روحه.
اقرأ ايضا: العشوائيات في السودان: مهددٌ أمني واجتماعي يجب اقتلاعه من الجذور
الخرطوم: مقصد الهجرات المستمرة
الخرطوم ظلت وجهة الهجرات الكبرى، هجرات لها أسباب مفهومة، ولكن لا مبررات عادلة. هي وجهة أهل الشرق، الذين يملكون الموانئ، والمعادن، والسياحة، والثروات البشرية، ولكنهم مهمشون. وجهة أهل الجزيرة، أصحاب أضخم مشروع زراعي مروي في العالم، في أرض يرويها نيلان ويغمرها المطر، ولكن الدولة عجزت، والمواطن استسلم.
هي وجهة أهل الشمالية ونهر النيل، حيث الذهب والقمح والبلح والخضروات، لكنهم ظلوا غرباء في أرضهم، يجهلون ثرواتها. وهي وجهة كردفان والنيل الأزرق، حيث آبار النفط، والصمغ العربي، والثروة الحيوانية الهائلة، وإمكانات صناعية يمكن أن تبني اقتصادًا متكاملًا. أما دارفور، فهي لم تهدأ يومًا لتكتشف نفسها، أو لنكتشف نحن خيراتها المطمورة تحت الرماد.
الولايات المحرومة والخرطوم المظلومة
إن غياب التنمية المتوازنة في الولايات لم يكن ظلمًا للأقاليم وحدها، بل كان ظلمًا للخرطوم نفسها وأهلها. لقد حُمّلت العاصمة ما لا تطيق، وصارت تُقابل بالغضب والكره، رغم أنها ضحية، لا جانية.
شعرت بالأسى وأنا أتابع عدسات الكاميرات تتجول في مطارات كسلا، وعطبرة، ومروي، وبورتسودان، والدمازين، ودنقلا… مطارات أقرب إلى المساكن الشعبية، بل إن “الميناء البري” في الخرطوم أضخم منها وأكثر فخامة. الأمر ذاته ينسحب على المستشفيات الكبرى في الولايات، والتي بدأت مؤخرًا في تلقي بعض الاهتمام والصيانة، بعد أن كانت تمثل قمة في البؤس والتدهور، وتثير السخرية حين تُقارن بنظيراتها في غزة أو سوريا أو حتى إثيوبيا وكينيا، ناهيك عن الصومال ورواندا وأوغندا، التي صعدت بنا ونحن نغرق.
إن كنا نرغب في تأسيس دولة عادلة، فلابد من نظام لامركزي حقيقي، لا شعارات جوفاء. يجب أن تكون الخدمات الأساسية والتعليم والصحة والاقتصاد والاستثمار حقًا مكفولًا في كل ولاية. ويجب أن تُمنح الولايات حق إدارة مواردها الطبيعية ومؤسساتها الربحية، وتظفر بنصيب الأسد من عائداتها، لا أن يُختطف كل شيء لصالح مركز واحد. هذا ليس تفضُّلًا من أحد، بل حقٌ أصيل للأقاليم، تأخر كثيرًا.
اقرأ ايضا: اختطاف الصحفي عطاف عبد الوهاب: جريمة ضد العدالة والدولة
وداعًا لأسطورة الخرطوم، ومرحبًا بالعاصمة التاريخية
لقد آن الأوان لتحطيم أسطورة الخرطوم. انتهت الخرطوم كعاصمة تستنزف الوطن، كقبلة لكل شيء، كمركز للمال والسلطة والامتيازات. انتهت الخرطوم التي يسكنها العطش على ضفاف نيلين، والتي تصبح فيها الكهرباء رفاهية، والغاز أمنية، وشبكة الصرف الصحي حلمًا مؤجلاً. مدينة تنام على “سايفونات”، وتنهض على أحياء عشوائية، وتستقبل مئات الآلاف من المجهولين، بلا تخطيط ولا هوية.
إلى هنا، يجب أن تُمنح الخرطوم حجمها الطبيعي. إلى هنا، يجب أن نغلق آخر صفحة من روايتها. لقد شبعت هذه المدينة من الأوهام، ومن الأحمال التي لا تخصها وحدها. آن لها أن تتحرر من فكرة العاصمة الأبدية، ومن صفة القلب المحتكر لحركة الدولة.
لكن، لا يعني هذا الفراق نكران الجذور أو طمس الذاكرة. فبعد وداع “الأسطورة” المصنوعة على يد النخب المركزية والحكومات المتعاقبة، نمدّ اليد مرحّبين بعودة الخرطوم كما كانت قبل التمركز والتضخم: مدينةً تاريخيةً نابضةً بالحياة، لها أهلها، وأصحابها، وروحها العتيقة.
مرحبًا بالخرطوم القديمة؛ الخرطوم التي سكنت ضمير القبائل الأولى؛ التي سُقيت بماء النيل لا بصفقات السفارات؛ التي لم تُبْنَ لأجل السلطة، بل نشأت بالحبّ، والحياة، والصبر على الطين والغبار. مرحبًا بعودة المدينة لأحضان ناسها. مرحبًا بعودة الديوم والمقرن، والموردة واللاماب، لا كمناطق نزوح وتهميش، بل كمساحات أصيلة تستعيد حضورها، وتنهض بهدوء من تحت الأنقاض، بعيدًا عن الأضواء، وأقرب للكرامة.
ها هي الخرطوم تنفض عنها ركام “الوهم القومي”، وتستعد لتعيد اكتشاف نفسها: لا كعاصمة لاحتكار الدولة، بل كإحدى مدن السودان التاريخية، تحتفظ بمكانتها الرمزية، ولكن دون أن تبتلع ما حولها، أو تتضخم على حساب من جاورها. لقد انتهت الأسطورة، وآن للمدينة أن تستريح، أن تتنفس، أن تُرمم كجسد جريح، لا كرمز متضخم. الخرطوم الآن ليست نهاية كل شيء، بل بداية لشيء أجمل: وطن متوازن، بعدالة تنموية، وعاصمة تُعاد لأهلها، وللجغرافيا.
اقرأ ايضا : العربية – “كانت هُنا مدينة”.. دمّروا قلب الخرطوم وجعلوه أثرا بعد عين!