وسط تصاعد الفوضى الأمنية في السودان، تبرز الحركات المسلحة، وتحديدًا الميليشيات المشتركة التابعة لمناوي وجبريل، كخطر متنامٍ يهدد مناطق التعدين، شريان الاقتصاد السوداني. جرائم متكررة، اعتداءات على السلطات، وتحدٍ سافر للقانون، تحوّل هذه الجماعات إلى قوة متمردة تُربك الاستقرار وتفرض سطوتها بالسلاح. هذا المقال يوثق وقائع خطيرة وقعت مؤخرًا في نهر النيل والدامر والدبة وكسلا، ويكشف أبعاد الخطر المتصاعد لهذه الميليشيات على الأمن القومي.
مقدمة تحليلية: جذر المشكلة
في ظل هشاشة الدولة السودانية وتفكك أجهزتها النظامية بعد انقلاب 25 أكتوبر، برزت الحركات المسلحة كقوة موازية، تستغل الفراغ الأمني والضعف الإداري لبسط نفوذها في مناطق خارج ولاياتها الأصلية. ومن بين هذه الجماعات، تبرز الميليشيات القبلية المشتركة التابعة لحركتي مني أركو مناوي وجبريل إبراهيم، التي دخلت إلى مناطق الشمال والشرق عقب اتفاقية جوبا للسلام بذريعة الحماية والمشاركة في الترتيبات الأمنية. لكن الواقع أثبت أن هذه الحركات المسلحة تحولت إلى مصدر توتر وصراع، لا سيما بعد أن ثبت تورطها في ممارسات عنصرية، وتجاوزات جنائية، وسلوكيات تهدد الأمن الاقتصادي والاجتماعي، خصوصًا في مناطق التعدين التي تشكل العمود الفقري للإيرادات الحكومية في ظل الحصار والانهيار المالي.
اقرأ ايضا: خروج حركات دارفور المسلحة قضية رأي عام : جريمة الدبة !
انهيار الأمن في الأسواق النهرية
ما حدث مؤخرًا في سوق الطواحين بمدينة أبو حمد بولاية نهر النيل، يؤكد مدى خطورة استمرار وجود الحركات المسلحة في مناطق التعدين. إذ أقدم أحد عناصر الميليشيات على توجيه سلاحه إلى ضابط شرطة المعادن بقسم الطواحين، ما اضطر الضابط إلى طلب الدعم العاجل من الشرطة والجيش. وعند العثور على العنصر لاحقًا، أقدم مرة أخرى على تعمير السلاح في وجه القوة المشتركة، مما استدعى الرد الفوري بإطلاق النار عليه لتحييده. لم ينتهِ التصعيد عند هذا الحد، بل قامت الميليشيات بمحاصرة السوق وإطلاق الأعيرة النارية في الهواء، في مشهد يستعرض فيه المسلحون قدرتهم على تحدي الدولة، ويكرس حالة الفوضى التي باتت السمة الغالبة في مناطق التعدين.
جرائم متكررة… والحصانة بالسلاح
في مدينة الدامر، وقعت جريمة أخرى يوم السبت 17 مايو، حين أطلق أحد أفراد الحركات المسلحة النار على تاجر مواشٍ إثر خلاف على السعر، ثم فرّ ولجأ إلى مجموعته التي رفضت تسليمه للشرطة. وحتى لحظة كتابة هذا التقرير، لا يزال الجاني حرًّا، محميًا من قبل مجموعته المسلحة. هذه الحادثة تأتي في سياق سلسلة من الجرائم المشابهة خلال أقل من شهرين، من بينها جريمة قتل في مدينة الدبة، حيث أقدم أحد أفراد الميليشيا على قتل صاحب صالون حلاقة وشقيقه بعد أن صرّح لهما بأن “الشماليين هم من همّشوا دارفور”، وجريمة أخرى في ولاية كسلا راح ضحيتها تاجر بريء. في جميع هذه الحالات، تتكرر ذات النتيجة: امتناع الحركات المسلحة عن تسليم الجناة للسلطات العدلية، في تحدٍ صريح لمفهوم الدولة والقانون.
الخطر القادم على الأمن القومي
إن هذه الممارسات لا يمكن فصلها عن المشروع السياسي والأمني الذي تمثله الحركات المسلحة، والذي بات واضحًا أنه يسعى لتفكيك النسيج الاجتماعي في الشمال والشرق، وفرض منطق القوة بدل منطق القانون. كما أن تحركاتهم في مناطق التعدين ليست عشوائية، بل تمثل محاولة للسيطرة على أهم الموارد الاقتصادية للدولة، ما يجعلها خطرًا حقيقيًا على الأمن القومي السوداني. أمام هذا الوضع، تبرز الحاجة العاجلة إلى إخراج هذه الحركات المسلحة من مناطق التعدين فورًا، وإعادة ترتيب الأجهزة الأمنية بما يضمن هيبة القانون، وفتح تحقيقات مستقلة في الجرائم المرتكبة وتقديم الجناة للعدالة.
اقرأ ايضا: المخطط الخفي: كيف تسعى حركات دارفور المسلحة للاستيلاء على الولاية الشمالية
انهيار هيبة الدولة واسترخاص الدم الشمالي
إن تكرار هذه الجرائم، ووضوح هوية الفاعل – المتمثل في الحركات المسلحة الدارفورية – واستهدافها المتواصل لأبناء شمال ووسط السودان في مناطقهم، دون اتخاذ أي إجراء حاسم كإخلاء هذه الجماعات من المناطق الآمنة أو إعادة نشرها في مناطق العمليات، يُعد مؤشراً خطيراً على غياب العدالة وتراخي الدولة في حماية مواطنيها. إن هذا التهاون المستمر في محاسبة الجناة، والتغاضي عن الانتهاكات، يرسّخ رسالة ضمنية مفادها استرخاص دماء الشماليين، ويمهّد الطريق لخطر أكبر يهدد المكونات السلمية التي لم تعرف حمل السلاح أو المتاجرة به، على عكس ما تمارسه بعض الحركات المسلحة من توظيف للعنف والارتزاق في الداخل ودول الجوار. الصمت على هذه الانتهاكات لا يُضعف الدولة فحسب، بل يفتح الباب لفوضى لا تُبقي ولا تذر.
ختامًا: الصمت ليس حياداً
إن تجاهل هذه الوقائع أو التهاون معها، لن يؤدي إلا إلى مزيد من الفوضى والانهيار الاقتصادي، ويمنح الفرصة لمشاريع الهيمنة العرقية لتوسيع نفوذها على حساب وحدة السودان وأمن مواطنيه.
وانت ما رأيك؟