قراءة تحليلية للعلاقة البنيوية بين الفساد والانهيار الاقتصادي في السودان
عند تفكيك مشهد الأزمة السودانية، يتضح أن الفشل الاقتصادي ليس مجرد نتيجة عشوائية للحرب أو لتدهور الإدارة، بل هو نتاج لتحالف فساد متشابك، نجح في تحويل الأزمة إلى مشروع لإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني لصالح فئة ضيقة من المستفيدين. هذا التحالف لم يظهر فجأة، بل تكوّن من تلاقٍ مصالح بين العسكريين، الحركات المسلحة، ورجال الأعمال الطفيليين.
1. آلية النهب المنظم في السودان : ما وراء الأرقام الصادمة
الخسائر الفادحة التي يُقدّر حجمها بـ50 مليار دولار في القطاع الصناعي و30 مليار في القطاع الزراعي، لا يمكن تفسيرها فقط بالدمار الناتج عن الحرب. إنما تعكس وجود منهجية متعمدة لنهب منظم تستغل غياب الدولة وتحويل الأصول العامة إلى ممتلكات خاصة.
الفراغ المؤسسي الناتج عن امتناع البرهان عن تشكيل حكومة ليس مجرد غياب سياسي، بل هو قرار استراتيجي يوفّر غطاءً لحركة الأموال والموارد دون مساءلة، ويُسهم في تعميق حالة الفوضى القانونية والمالية التي تخدم منظومة الفساد.
2. الدور الاقتصادي للحركات المسلحة: إعادة تشكيل الخريطة الاقتصادية
عندما تُترك الملفات الاقتصادية تحت سيطرة حركة الزغاوة المسلحة، فإن الأمر يتجاوز التقصير الإداري، ليدخل في سياق إعادة توزيع الثروة بقوة السلاح. تزامن هذا مع سيطرة هذه الجماعات على قطاعات التعدين والتجارة، يوضح أن ما يجري هو إعادة تخصيص ممنهجة للموارد الوطنية.
اقتصاد الظل الذي تديره هذه الحركات بالتوازي مع الهياكل الرسمية في السودان، يكشف عن تشكل اقتصاد موازٍ خارج سلطة الدولة، يُعاد من خلاله إنتاج النخب الاقتصادية على أسس جديدة تخدم تحالف الفساد.
اقرأ ايضا: خروج حركات دارفور المسلحة قضية رأي عام : جريمة الدبة !
3. الضرائب كأداة للابتزاز الاقتصادي
فرض ضريبة 2% على ترحيل المواد الخام ليس إجراءً تقنياً عابراً، بل هو جزء من أجندة متكاملة تهدف إلى:
- التحكم في سلاسل الإمداد
- خلق قنوات رسمية للرشاوى والعمولات
- إقصاء الفاعلين الاقتصاديين الشرعيين لصالح شركاء المنظومة الفاسدة
ما يُسمى بـ”تسوية الأوضاع” التي تُعرض على رجال الأعمال، ما هي إلا آلية للابتزاز المنظّم تُستخدم لدمجهم في شبكة المصالح.
4. خريطة تحالف الفساد وتدفقات الثروة
يتكوّن تحالف الفساد في السودان من ثلاث قوى رئيسية:
- الجنرالات: يوفرون الحماية والشرعية الرسمية
- الحركات المسلحة: تفرض السيطرة الميدانية على الموارد
- المنتفعون الاقتصاديون: يديرون العمليات المالية والتجارية
النتيجة هي تحويل ما لا يقل عن 80 مليار دولار من الاقتصاد الرسمي إلى قنوات غير نظامية تشمل التهريب، التعدين غير القانوني، وتجارة السلاح.
اقرأ ايضا: العودة إلى سنار : دعوة لتأسيس الحلم من الجذور
استنتاج تحليلي: الفشل الاقتصادي كخطة مدروسة
ما يشهده السودان اليوم من انهيار اقتصادي ليس حالة طارئة، بل هو مشروع مدروس لإعادة هندسة الاقتصاد الوطني. يستخدم تحالف الفساد أدوات الحرب، الفراغ السياسي، والسياسات الضريبية لخلق واقع اقتصادي جديد يخدم مصالحه على حساب المصلحة الوطنية.
إن استمرار الحرب رغم تكلفتها، وغياب أي رؤية اقتصادية واضحة، ليسا مجرد قصور إداري، بل يعكسان رغبة متعمدة في إبقاء البلاد في حالة سيولة تسمح بتعظيم أرباح الفساد. وهكذا، تصبح الأزمة وسيلة وليست عائقاً، ويُعاد تعريف الدولة السودانية كإطار هش يُستخدم لتغطية أكبر عملية نهب في تاريخها الحديث.
عبء اقتصادي على دولة هشّة
اتفاق جوبا حمّل الاقتصاد السوداني أعباء إضافية في وقت كانت فيه الدولة تعاني من تضخم مفرط وانكماش مزمن. شملت الالتزامات بنودًا مالية كبيرة لتقاسم الثروات، وتوظيف آلاف المقاتلين السابقين، وتمويل ترتيبات أمنية خاصة. هذا الضغط الجديد على ميزانية ضعيفة أصلاً أضعف قدرة الحكومة على تمويل الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة، وزاد من اعتمادها على المساعدات الخارجية والقروض، دون استراتيجية إنعاش حقيقية للاقتصاد.
شرعنة السلاح وتوسيع الاقتصاد الموازي
ساهم الاتفاق في إدماج المليشيات المسلحة ضمن مؤسسات الدولة، لكن دون نزع فعلي لسلاحها أو فرض رقابة على تحركاتها. هذا سمح لتلك الجماعات بالتمدد في قطاعات الاقتصاد الريفي كالتعدين التقليدي وفرض الجبايات في مناطق نفوذها. تحولت المليشيات إلى كيانات تسيطر على موارد محلية بقوة السلاح، ما أدى إلى تقويض سلطة الدولة وتوسيع اقتصاد موازٍ يعمل بمنطق الفوضى لا القانون، في ظل غياب رقابة أو محاسبة.
إعادة إنتاج منطق القوة
الاتفاق، رغم شعاراته السلمية، أعاد إنتاج منطق المحاصصة القائم على “السلاح مقابل السلطة”، مما فتح شهية جماعات أخرى على حمل السلاح لتحقيق مكاسب سياسية. بدلاً من توحيد القوى حول مشروع وطني جامع، أدى هذا النمط إلى مزيد من الانقسامات، وزرع بذور التنافس بين المليشيات على النفوذ والثروات. النتيجة كانت تفكيك الدولة أكثر من توحيدها، وتحوّل دارفور ومناطق أخرى إلى مساحات نفوذ شبه مستقلة خارجة عن سيطرة المركز.
اكتب لنا رأيك في المقال؟