Site icon الديوان

برمجة العقل الباطن المجتمعي: الأساس الخفي لواقع ومستقبل السودانيين

فرح ود تكتوك برمجة العقل الباطن المجتمعي في السودان

فرح ود تكتوك برمجة العقل الباطن المجتمعي في السودان

(فرح ود تكتوك نموذجا)

عندما نتحدث عن برمجة العقل الباطن والمجتمع السوداني نجد انه فيه حقيقة غير منظورة، لم يتم شرحها أو تناولها في العلوم الإنسانية بشكل كافٍ، أو بالأحرى، لم أجدها في كتاب إطلاقًا… لكني عشتها كما يعيشها كل إنسان، ومع الزمن بدأت أحاول أفهم معاني الأشياء وأسأل: لماذا حدث هذا ولم يحدث غيره؟ وما السبب العميق خلف الأحداث؟

كنت أتساءل دومًا: لماذا أمر بصعوبات شديدة في فترات متقاربة؟ لدرجة أن هذه الصعوبات أصبحت نمطًا متكررًا، بل أحيانًا كنت أتنبأ بحدوث المصائب… وتحدث. وكأن هناك برمجة خفية تتحكم في الواقع، تنفذ تلقائيًا، دون وعي. ومع مرور الوقت، لاحظت أن هذا النمط لا يخصني وحدي، بل يتكرر في مجتمعات بأكملها، خصوصًا مجتمعنا، الذي كلما نجا من كارثة دخل في أخرى أعنف منها.

في لحظة صفاء، أدركت أن هناك شيء كنت أنا غافلاً عنه… ومجتمعي كذلك. لكن في مجتمعات أخرى—أوروبا، أمريكا، الخليج—رغم جهلهم الظاهري بهذا الشيء، إلا أن هناك فرقًا واضحًا في التركيبة النفسية واللاواعية. مجتمعاتهم ببساطة تبنّت اختيارات مختلفة، وأكثر انسجامًا مع مفاتيح الحياة. وهذا هو ما خلق الفروقات التي نراها في الحاضر، والتي سترسم مستقبلًا مختلفًا للجميع.

اقرأ ايضا: العودة إلى سنار : دعوة لتأسيس الحلم من الجذور

بدأت أدرس نفسي أولاً، قبل أن أحكم على المجتمع. خضت رحلة طويلة جدًا في استكشاف الوعي واللاوعي، الحقيقة والوهم، الأفكار والمدركات. ولم تكن هذه المعرفة عبر كتاب أو معلم، بل كانت مدركات ذاتية، وحي داخلي، حدس متطور، نوع من الإلهام الصامت الذي يهمس في لحظات الصفاء.

ومن أعمق ما أدركته خلال هذه الرحلة:
أن الواقع الشخصي—بكل تفاصيله—ما هو إلا نتاج لاختياراتنا الذاتية اللاواعية، والتي هي نفسها نتيجة لـ برمجة العقل الباطن منذ الطفولة. فالأغنياء ليسوا أغنياء لأنهم أذكى، بل لأن برمجة العقل الباطن لديهم اختارت الثراء. والفقراء اختاروا الفقر دون وعي. من يعيش سهولة في حياته، قد يكون قد اختارها لا شعوريًا. ومن يختار المعاناة، سيجدها حتمًا.

هذا الإدراك خلق داخلي حماسة عظيمة، لأنه ببساطة كشف لي أنني قادر على التغيير. وفي اللحظة التي بدأت أختار السهولة، اليسر، السعادة، الثروة، والرفاهية بشكل واعٍ، بدأت تظهر الاختيارات القديمة التي كانت تسير حياتي. ومع المعرفة والممارسة، بدأت أتحرر منها. وهنا كانت أول خطوة فعلية في إعادة برمجة العقل الباطن، لتبدأ الاختيارات الواعية في تشكيل واقع جديد يخدمني.

الاختيارات اللاواعية ليست من فراغ، بل تُولد من ثقافة المجتمع وتربيته. ولهذا دائمًا نسمع: “صاحب السعيد تسعد”، و”ابعد عن أصدقاء السوء”، لأن الوعي الجماعي يؤثر علينا، ويشكل اختياراتنا. المجتمع يزرع فينا أفكارًا على هيئة “حقائق” مثل:

كل هذه ليست حقائق، بل برمجيات لا واعية توارثناها وصرنا نكررها بدون تفكير. وعندما بدأت أغير هذه الاختيارات الواعية، بدأت برمجة العقل الباطن تتغير، وبدأ الواقع يتبدل. التغيير الكبير الذي حصل، بدأ من اختيار صغير جدًا في وعيي.

مع هذا الإدراك، بدأت أرتب حياتي بطريقة جديدة. صرت أتأمل المجتمع ككل، وأسأل: لماذا نعيش في معاناة لا تُصدق؟ لماذا كل جيل يمر بكارثة أكبر من الذي سبقه؟ وهنا جاءتني مقولة فرح ود تكتوك:

تعمر الخرطوم وتصل سوبا
وتخرب وتتفرّتق طوبة طوبة
وتعمر عمار، وتسلم سلام
وتبقى مقصد العرب والعجم

المقولة دي مش نبوءة، بل اختيار جماعي اتبناه الناس، لأنه صادر عن رمز ديني واجتماعي مقدّس. ولحسن الحظ، اختار أن يختمها بـ”العمار والسلام”، مما يفتح باب الأمل على مصراعيه… إذا ما أعدنا برمجة وعينا الجمعي والعقل الباطن للمجتمع.

اقرأ ايضا: من العنصرية إلى الوعي السياسي: قراءة في مفاهيم التعايش والاختلاف

ما يجب أن نفهمه اليوم أن للحياة مفاتيح. هذه المفاتيح موجودة، لكنها مخفية خلف حجاب البرمجة اللاواعية. وعندما نمتلك الوعي الكافي لإعادة ضبطها، تتغير الحياة كليًا.

وأنا لا أشك لحظة أن المستقبل سيكون مشرقًا جدًا، لأن المعاناة التي نمر بها بدأت تُخرج لنا جيلًا جديدًا باختيارات مختلفة:
اختيارات نحو الحياة، اليسر، والنور.

Exit mobile version