في لحظة مفصلية من تاريخ السودان الحديث، وعلى وقع أزمات سياسية متراكمة وحروب أهلية أنهكت الجسد الوطني لعقود، خرج إلى العلن بيان حمل عنوانًا لافتًا: “بيان انطلاق مشروع الدولة الجديدة لشعوب النهر والبحر: دعوة للسلام وتقرير المصير”، صادر عن منظمة النهر والبحر، وهي كيان سياسي أعلن نفسه ممثلًا لتطلعات شعوب الشمال والشرق والوسط، مستندًا إلى ما يعتبره إرثًا تاريخيًا وجغرافيًا وهويويًا مستقلاً، ومسجّلًا اعتراضًا جوهريًا على ما يسميه “واقع ما بعد الاستعمار” الذي جمع شعوبًا متباينة قسرًا داخل حدود السودان الحالي.
البيان لم يكن مجرد تصريح سياسي عابر، بل وثيقة تأسيسية لمشروع دولة جديدة تقوم على مبدأ تقرير المصير، وتنشد السلام والاستقرار في منطقة طالما دفعت ثمن محاولات التعايش المفروضة والعدالة الغائبة. فبين سطور البيان، تتجلى ملامح رؤية سياسية واجتماعية تسعى لإعادة تعريف الهوية والسيادة والارتباط الوطني على أسس من الاختيار والعدالة، لا القهر والإلحاق.
هذا المقال يوثق مضمون البيان، ويستعرض سياق ظهوره، ويحاول فهم دوافعه، وتأمل ما يحمله من رسائل سياسية، ومآلات محتملة، في وقت يشهد فيه السودان تحولًا تاريخيًا غير مسبوق.
بسم الله الرحمن الرحيم
أهلنا الأوفياء في شمال وشرق ووسط السودان، في جغرافيا النهر والبحر الأبية، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،
يأتيكم هذا البيان بعد انتظار طويل من أبناء هذا الوطن الذين آمنوا بمشروع الدولة الجديدة. أولئك الذين كتبوا وراسلوا وتواصلوا وسعوا بصدق، طيلة سنوات، لاستعادة الكرامة الوطنية، وتحقيق نهضة حقيقية في إطار سياسي جديد يليق بعراقة تاريخنا وأصالة شعوبنا. وها نحن اليوم، نقولها بيقين: بسم الله نبدأ، لنضع أول حجر في بناء صرح دولتنا المرتجاة، الدولة التي تقوم على أسس التواد والتراحم، والنهضة والرفاهية، والسلام الشامل.
النهر والبحر : من نحن؟
منذ البداية، تعاهدنا معكم في منظمة النهر والبحر أن نكون لسان حالكم، وسندكم في مساعٍ صادقة نحو إقامة كيان سياسي جديد، ينبثق من إرادة شعبية حقيقية، لا من اتفاقات فوقية أو مواثيق مفروضة. إننا نؤمن أن واقع السودان الحالي، الذي وُلد من رحم الاستعمار، لم يعد يصلح ليكون حاضنةً جامعةً لشعوب مختلفة لم تُستشر في أصل تكوينه. فقد جمع المستعمر داخل هذه الحدود المصطنعة مكونات متباينة في الهوية والتاريخ والثقافة، وأجبرها على التعايش تحت ظلال البندقية، في وحدة شكلية لا تستند إلى أساس موضوعي أو وفاق حقيقي.
جذور الأزمة السودانية
منذ لحظة مغادرة المستعمر، بدأت هذه المكونات تتصادم، في سلسلة من الحروب والنزاعات التي لا تكاد تنقطع. فقد كانت البدايات مع النزعات الأنانية والانفصالية، حين خرجت الحركة الشعبية لتحرير السودان بمشروعها الذي قسم الأرض والناس. ثم ظهرت نسختها الثانية في الشمال، لتتوالى بعدها عشرات الحركات المسلحة، تتكاثر كما تتكاثر الحرائق في الهشيم. وصل الأمر إلى حد وجود أكثر من 35 حركة مسلحة في إقليم دارفور وحده، في مشهد يعكس حجم الفشل البنيوي لمشروع الدولة المركزية.
لقد أدت هذه الحروب إلى استنزاف اقتصادي مرير، حيث تحوّلت موارد البلاد إلى دعم آلة الحرب، بدلاً من توجيهها إلى التعليم والصحة والتنمية والخدمات. كما أورثتنا عقوبات دولية دفع ثمنها المواطن البسيط، قبل أن تطال الحكومات والنخب. تحمّلت شعوب النهر والبحر هذا العبء سنوات طويلة، بلا مردود، فقط لأننا قبلنا أن نعيش في واقع سياسي صاغه لنا المستعمر، ولم نصنعه نحن.
تشخيص الأزمة الحقيقي
لم تجرؤ القوى السياسية، على اختلاف ألوانها وتوجهاتها – سواء كانت تقليدية أم حديثة، مدنية أم عسكرية – على تقديم تشخيص حقيقي للأزمة الوطنية. لم تملك الشجاعة لتعترف بأن ما يسمّى بـ”سودان 56″ ما هو إلا تركيبة قسرية، جمعت بين شعوب لها تاريخها وهويتها الخاصة، في إطار واحد دون مشورة أو توافق.
إن دارفور، بتاريخها العريق، لم تكن يومًا جزءًا من السلطنة الزرقاء، بل كانت مملكة مستقلة، لها مؤسساتها وسيادتها. أما جبال النوبة وجنوب السودان، فقد تعمّد المستعمر عزلها عن بقية السودان، تحت ما عرف بقانون “المناطق المقفولة”، بهدف الحفاظ على تمايزها الهوياتي، ومنع تمازجها مع الشمال.
حتمية دولة النهر والبحر: فشل التسويات وبروز خيار تقرير المصير
لقد فشلت كل محاولات التسوية، رغم تنوعها وتعدد تجاربها. كلما دخل أمير حرب إلى القصر الجمهوري، على ظهر مدرعة، ظهرت حركات جديدة تطالب بذات المطالب. لم يعد الصراع يقتصر على دارفور أو الجنوب، بل تمدّد إلى مناطق لم تعرف الحرب من قبل، وهدّد وحدة النسيج الوطني بأسره.
تجربة حق تقرير المصير في جنوب السودان كانت تجربة قاسية لكنها ناجعة، حيث أوقفت واحدة من أطول وأعنف الحروب في القارة، والتي راح ضحيتها أكثر من مليوني شخص. إن العالم كله بات يدرك أن احترام خصوصيات الشعوب وحقها في تحديد مصيرها، وفق أسس عادلة وسلمية، هو الحل الأمثل لتفكيك الأزمات المتجذرة.
خطاب الكراهية والتزييف المتعمّد
في ظل هذه الفوضى، تعالت أصوات الكراهية، واستخدم البعض مصطلح “الجلابة” كأداة لتحميل شعوب النهر والبحر كل مآسي السودان، من فقر وحرب وتخلف وانقسام. لكن الحقيقة أن هذه الشعوب هي التي دافعت عن مشروع الوطن الواحد منذ الاستقلال، وهي التي قدّمت أبناءها فداءً لوحدة السودان، وحاولت أن ترى في هذا الواقع البائس شيئاً من الجمال، وفي هذا الخراب فرصة للإصلاح. لكن كفى عبثًا. لقد آن الأوان أن نتحرر من هذه النظرة الخاطئة، وأن نعيد تقييم التجربة بواقعية ومسؤولية، دون مجاملة لأحد أو مواربة في الحق.
العودة إلى التاريخ وواقع الحال
لقد آن الأوان أن تعود مناطق الشمال والوسط والشرق إلى وحدتها السياسية، على غرار السلطنة الزرقاء التي سبقت المستعمر. كما حان الوقت لأن تسترد دارفور سيادتها كسلطنة مستقلة، وأن تنال جبال النوبة خصوصيتها الكاملة، وأن تُعاد خريطة العلاقات السياسية في السودان على أسس تاريخية عادلة، لا على إرث استعماري جائر.
دعوتنا: دعوة سلام لا حرب
نؤكد لأهلنا، ولكل من يستمع لهذا البيان، أن دعوتنا ليست دعوة إلى الحرب، وإنما دعوة إلى سلام عادل وحقيقي، يقوم على الاعتراف بالخصوصيات، واحترام الإرادات الحرة. لقد أعطينا “سودان 56” فرصة كاملة، امتدت لأكثر من ستة عقود، وخسرنا خلالها أكثر من ثلاثة ملايين روح.
إننا اليوم نقف أمام خيارين: إما السلام الكاذب الذي يشترط التخلي عن الهوية والحقوق والثقافة، مقابل سراب الدولة الواحدة؛ أو الاستمرار في حرب عبثية، لا تبقي ولا تذر. أما نحن، فلسنا قادرين على تحقيق الأول، ولا مستعدّين لمواصلة الثاني.
خارطة الدولة الجديدة
منظمتكم “منظمة النهر والبحر” هي كيان سياسي، هدفه الأسمى هو تمكين شعوب النهر والبحر من ممارسة حقها المشروع في تقرير مصيرها عبر صناديق الاقتراع، بكل حرية وشفافية. وتشمل هذه الجغرافيا:
- الخرطوم
- النيل الأبيض
- النيل الأزرق
- سنار
- الجزيرة
- نهر النيل
- كسلا
- القضارف
- شمال كردفان
- الشمالية
- البحر الأحمر
- اضافة الى اجزاء من جنوب وغرب كردفان
هذه الخريطة هي نواة الدولة الجديدة، دولة النهر والبحر، التي ستقوم على أسس التعدد الثقافي، والعدالة، والتنمية، والسلام المستدام.
انطلاقة المرحلة الجديدة
نحن أبناء شعوب النهر والبحر، المؤتمرون في يوم 10 محرم 1422هـ، الموافق 29 أغسطس 2020م، أعلنا في ذلك اليوم ميلاد “منظمة النهر والبحر – رأس”، كمنظمة سياسية تعمل على تنسيق الجهود نحو تأسيس الدولة الجديدة. وها نحن اليوم، ننتقل إلى مرحلة جديدة من العمل، عبر الخروج إلى العلن ومخاطبة الناس مباشرة، بعد سنوات من العمل السري والدؤوب.
بسم الله بدأنا، وباسم الله ننتهي.
عن منظمة النهر والبحر وقيادتها،
الوليد كرماوي
نائب المنسق العام، والناطق الرسمي باسم منظمة النهر والبحر – رأس
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
في النهاية، يعكس هذا البيان موقفًا واضحًا من قضايا الهوية والسيادة والسلام في السودان. ويطرح رؤية جديدة ترتكز على تقرير المصير وتقسيم الدولة وفقًا لمكونات جغرافية وتاريخية معينة. يظل السؤال مطروحًا حول كيفية استجابة الأطراف المختلفة لهذا الطرح، وما إذا كان يمكن أن يؤدي إلى حلحلة الأزمات السياسية المستمرة أم لا، وانت ما رأيك؟
اقرأ ايضا: الهوية الثقافية السودانية بين صراعات الإقليم والتحولات الداخلية العميقة
تعليق واحد
انا حسبت الاقاليم اعلاه وجدتها احدى عشر وبحساب الموارد الماديه والبشريه يمكن ان تشكل دوله متعافيه ..تجربه الجنوب واهدار الموارد واستنزاف الدوله تجربه كافيه لكل زى بصيره بعدم جدوى الوحده القسريه فقد كان الحصاد الاف القتلى والجرحى وعليه يصبح منح كل من اراد الانعتاق افضل الخيرات …نعم فمن تشابهوا تجانسوا ولتنعم الاجيال القادمه بقليل من السلام وحسن الجوار مع الاخر