رغم سيطرة الجيش على مساحات واسعة من السودان، تتكرر حوادث النهب والاعتداء تحت تهديد السلاح، حتى في المناطق التي يُفترض أنها آمنة. هذه الظاهرة لم تعد استثناءً، بل مؤشراً على خلل أعمق يرتبط باختراقات أمنية، وتحالفات اجتماعية مريبة، وخطابات مضللة تُستخدم لتبرير العنف. هذا المقال يحلل جذور الظاهرة وأبعادها الحقيقية، ويقترح مسارات لمواجهتها بحسم ووضوح.
حقيقة الانفلات الأمني
تكشف حادثة نهب الماشية في منطقة الشقيلاب عن ظاهرة خطيرة تتمثل في استمرار أعمال النهب والسرقة تحت تهديد السلاح، حتى في المناطق التي يُفترض أنها مؤمنة وتخضع لسيطرة الجيش. هذه الحادثة ليست معزولة، بل هي واحدة من سلسلة طويلة من الحوادث التي تؤكد وجود خلل بنيوي في بنية الأمن المجتمعي والمؤسسي. الظاهرة في جوهرها تعكس تحدياً مركباً يتطلب فهماً دقيقاً للسياق التاريخي والاجتماعي، بعيداً عن الروايات المفبركة التي تحاول تقديم التبرير للعنف تحت شعارات براقة.
حقائق تاريخية وديموغرافية
المجموعات التي تقوم بأعمال النهب هي في الواقع طارئة على إقليمي النهر والبحر، وغالباً ما أتت في سياقات نزوح أو تهجير بسبب النزاعات في مناطق أخرى من البلاد. ليست جزءاً أصيلاً من النسيج الاجتماعي لهذه المناطق، ولا تملك جذوراً تاريخية متجذرة فيها.
على عكس ما يُروّج له، لم يتم تهميش هذه المجموعات تاريخياً في هذه الأقاليم، لأنها ببساطة لم تكن موجودة فيها كفاعل اجتماعي مؤسس أو متعايش ضمن سياقها الأهلي. كثير من الخطابات التي تصدر عن منفذي أعمال النهب تسعى إلى تزييف هذا الواقع، مستخدمة عبارات مثل “استرداد الحقوق” أو “مقاومة التهميش”، وهي في جوهرها محاولة لتبرير أفعال عدوانية ضد مجتمعات أصيلة.
ومن المهم التنبيه إلى أن هذا الخطاب لا يولد في الفراغ، بل يتم تغذيته بانتقائية من سرديات سياسية هدفها إحداث قطيعة بين المجتمعات المحلية وتاريخها، لإعادة صياغة “الحق” بمعايير القوة، لا بالانتماء الشرعي للمكان.
دور مجتمعات الأحزمة السوداء
مجتمعات “الأحزمة السوداء” تعتبر الحاضنة الاجتماعية غير المعلنة للإنفلات الأمني في السودان ، وهي الأحياء الطرفية الفقيرة المحيطة بالعاصمة الخرطوم، شكّلت بيئة حاضنة للتمدد المسلح منذ بدء التوترات الأمنية، نظراً لتهميشها المزمن، وضعف حضور الدولة فيها، واحتوائها على كثافات سكانية من مناطق النزاعات المسلحة.
عند سيطرة الجنجويد على الخرطوم، لم تكن هذه المجتمعات في موقع المواجهة، بل أظهرت قدراً من التعايش، بل والدعم أحياناً. هذا الدعم لم يكن فقط رمزياً، بل شمل تقديم خدمات لوجستية، وتسهيل التجنيد، وتوفير مخابئ وأدوات تنقل. وقد استمرت هذه العلاقة حتى بعد استعادة الجيش السيطرة على بعض المناطق، مما يجعل الخطر لا ينحصر في الحدود الجغرافية بل يمتد عبر شبكات اجتماعية نشطة.
آليات عمل المجموعات المسلحة
هذه المجموعات تستند إلى سردية “المظلومية التاريخية” كمبرر أساسي لأفعالها، وتدمج بين مفاهيم مثل “الهامش والمركز”، و”السودان الجديد”، لتضفي شرعية شكلية على أفعال تتناقض تماماً مع القانون والأخلاق السياسية.
ان الصراع الذي تشنه هذه المجموعات لا يُطرح باعتباره صراع موارد أو نزاعاً سياسياً عادياً، بل يتم تقديمه كمعركة بين “أقوام” و”ثقافات”، ويُعاد تدوير مصطلحات مثل “الجلابة” لتغذية النزعة العدائية. والواقع أن هذه المجتمعات المستهدفة هي جزء أصيل من التركيبة السكانية والتاريخية للمنطقة، لا وافدة ولا محتلة.
الاختراق الأمني : الاختراق الداخلي وازدواج الولاء
تشير الوقائع إلى وجود عناصر داخل الجيش تنتمي إلى المناطق ذاتها التي تنحدر منها بعض المجموعات المسلحة، وهو ما يفتح الباب أمام احتمالات التعاطف أو حتى التواطؤ الصامت. هذا الوضع ينعكس على الأرض من خلال التراخي في ضبط نقاط التفتيش، أو التغاضي عن تحركات مشبوهة، ما يضعف فعالية الإجراءات الأمنية ويُحدث ثغرات خطيرة في بنية السيطرة والانضباط.
في ظل هشاشة مؤسسات الدولة، تظل الولاءات القبلية والجهوية فاعلة داخل المؤسسة العسكرية، ما يخلق “ولاءات مزدوجة” تُقوّض حيادية القرار الأمني. هذا التداخل يُسهم في نشوء شبكات معلومات موازية، تنقل تفاصيل دقيقة عن تحركات القوات أو نقاط انتشارها إلى المجموعات المسلحة، مما يمكّنها من تنفيذ عملياتها بكفاءة عالية وتخطيط مسبق، ويحول حتى المناطق التي يفترض أنها آمنة إلى مساحات مكشوفة أمنياً.
الأهداف الحقيقية وراء أعمال النهب
ما يُسوَّق كفعل “ثوري” أو “تصحيحي” ليس سوى غطاء لعملية ممنهجة تستهدف السيطرة على الموارد العامة والخاصة. يتم بناء اقتصاد موازٍ قائم على النهب المنظم، يستفيد من الفوضى الأمنية لتجميع ثروات سريعة تُهرّب عبر شبكات محلية وإقليمية، ما يرسّخ مصالح أطراف محددة على حساب الدولة والمجتمعات الأصلية.
لكن الاستهداف لا يتوقف عند الثروة، بل يمتد إلى الإنسان والمكان. عمليات النهب تتعمد ضرب قدرة المجتمعات الأصلية على الصمود من خلال تدمير مصادر عيشهم وإشاعة الخوف، ما يؤدي إلى تهجير قسري يخلق فراغاً سكانياً. هذا الفراغ يُملأ لاحقاً بجماعات موالية للمهاجمين، في محاولة لإعادة تشكيل التركيبة الديموغرافية وفرض واقع جديد يخدم مشروع السيطرة الشاملة.
أسباب استمرار الظاهرة تحت سيطرة الجيش
ثغرات أمنية هيكلية
- محدودية الانتشار العسكري: رغم سيطرة الجيش على الأرض، إلا أن الانتشار الفعلي يظل جزئياً، خاصة في المناطق الريفية النائية.
- نقص في المعلومات: غياب جهاز استخباري ميداني فعّال يجعل من الصعب التنبؤ بحركات الجماعات المسلحة أو محاصرتها قبل تنفيذ عملياتها.
- ضعف التنسيق بين الجهات الأمنية: غياب غرفة عمليات مشتركة بين القوات النظامية يُبقي الإجراءات الأمنية مجزأة وغير فعّالة.
التواطؤ الداخلي والفساد
- التعاطف الشخصي أو الجهوي: يؤدي إلى تساهل متعمد في تنفيذ الأوامر.
- الفساد المؤسسي: يشمل تلقي رشاوى مقابل التغاضي عن تحركات المسلحين أو تسهيلها.
- التسريب المنظم للمعلومات: قد يكون مدفوعاً بأجندات سياسية أو ولاءات عميقة.
التداعيات الخطيرة لغياب الردع
تكرار عمليات النهب دون محاسبة حقيقية يقوّض ثقة المواطنين في الدولة ومؤسساتها، ويعزز شعورهم بالعزلة وانعدام الحماية. كل حادثة تمرّ دون ردع تترك أثراً عميقاً في الوعي الجمعي، وتُفسر كدليل على تواطؤ أو عجز، مما يفتح الباب أمام نزعات الغضب والانفصال عن الدولة.
في المقابل، يغذي هذا الواقع بروز ردود فعل مضادة، تبدأ غالباً بتشكيل مجموعات دفاع محلية، قد تتحول لاحقاً إلى ميليشيات مسلحة خارج سيطرة الدولة، فتدخل البلاد في حلقة جديدة من العنف الأهلي المتبادل. هذا الانفلات المتصاعد يُضعف موقع الدولة استراتيجياً، ويقوّض قدرتها على بسط سلطتها أو إعادة بناء مؤسساتها، ما يُهدد الأمن القومي ويُعمّق الفوضى على المدى البعيد.
الحلول المقترحة : على المستوى الأمني
- تطهير المؤسسة العسكرية من العناصر غير المنضبطة أو ذات الولاءات المتعددة.
- تعزيز القدرات الاستخبارية والتقنية.
- تأمين المناطق الاقتصادية والحيوية عبر وحدات سريعة الحركة ومجهزة.
الحلول المقترحة : على المستوى القانوني
- ملاحقة كل من يثبت تورطه في أعمال النهب قضائياً، بغض النظر عن خلفيته.
- إطلاق برنامج لتعويض المتضررين ودعمهم لإعادة بناء حياتهم.
- تفعيل قوانين حماية الملكية وتحديث سجلاتها بما يمنع التلاعب.
ختاما
ظاهرة التفلتات الأمنية في مناطق سيطرة الجيش ليست عشوائية، بل تحمل ملامح مشروع منظم لإعادة صياغة الواقع الاجتماعي والديموغرافي عبر العنف والنهب والترويع. المواجهة الفعالة لهذه الظاهرة تتطلب وضوحاً في الرؤية، وحزماً في التنفيذ، وإرادة سياسية لا تساوم على ثوابت السيادة والمجتمعات الأصيلة.
إن المعركة ليست فقط مع المجموعات المسلحة، بل مع الخطاب الكاذب الذي يمنحها شرعية مزيفة، ومع البنية المؤسسية المختلة التي تُفرّغ السيادة من مضمونها. الخيار أمامنا واضح: إما دولة قانون ومجتمع راسخ، أو فوضى تحكمها البنادق والروايات المفبركة.
وأنت ما رأيك؟