لن نبخس دارفور حقّها إن قلنا إنها وليدة فوضى الغابة وعنف الصحراء. تاريخياً، مجتمعات هذا الإقليم، زنجهم وعربهم، لم يعيشوا في سلام مستدام أبداً. في كل حين، تتجذّر في العقل الجمعي نزعات العنف وفوضى الدماء (Blood and Chaos).
ليس لأن هذه النزعات تركيبات جينية متوارثة، بل لأن الهوية والفعل السياسي وظواهر الاقتصاد وعوامل البيئة أصبحت براكين ثائرة لا يهدأ أحدها حتى ينفجر على أجسادهم آخر، وتجري تحت أقدامهم حممها.
الممالك والسلطنات: ذاكرة ضائعة
دارفور هي وريثة سلطنات وممالك متعاقبة، تاريخها ضئيل التدوين. أشار المؤرخون إلى أن أولى الممالك في دارفور كانت مملكة الداجو، ثم التُنجُر، ثم أسرة كِيرة من قبيلة الفور التي بلغت الحكم ربما في 1605م. اشتهر من أوائل ملوكهم سليمان سولونق (1640 – 1670)، وامتد حكم السلطنة الأول حتى 1874م بانهيارها على يد الغزو التركي بقيادة الزبير باشا ود رحمة في منواشي.
بعد تقهقر المستعمر التركي ودخول الاستعمار الإنجليزي في 1898، أعادت دارفور بناء بعض مملكتها الضائعة واستمر حكم الفترة الثانية حتى عام 1916م، حين تم تدمير المملكة نهائياً على يد الاستعمار البريطاني، عقاباً لمساندة السلطنة للعثمانيين ضد البريطانيين في الحرب العالمية، وتم قتل آخر سلاطينهم علي دينار.
مناخ متغير، وهجرات ضخمة
هذا الإقليم شديد الاضطراب، ابن النزاع الاجتماعي والصراع السياسي والجغرافي. شهدت دارفور عبر القرون هجرات ضخمة لعشرات القبائل عبر الحدود، خاصة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، نتيجة موجات جفاف هائلة ضربت وسط وغرب إفريقيا.
من أبرزها:
- جفاف 1968
- جفاف 1974
- الجفاف الكبير 1981
- جفاف 1986
هذه الكوارث المناخية أثرت خلال 50 عاماً على أكثر من 50 مليون نسمة، وفق تقارير منظمات أممية. أدى ذلك إلى النزوح، الصراعات المسلحة، ونزاعات الرعاة والمزارعين، وتوطين جماعات وافدة على حساب السكان الأصليين.
اقرأ ايضا: من العنصرية إلى الوعي السياسي: قراءة في مفاهيم التعايش والاختلاف
النخب، الميليشيات، والهوية
برزت في دارفور أزمات سياسية أعمق، من أبرزها أزمة النخب وأمراء الميليشيات، التي استندت على أيديولوجيا متكاملة حول الهوية والأرض والعالم. في الستينات، انتشرت في شرق إفريقيا أفكار الزنوجية والعودة للأصل الأسود، فانبثقت عنها حركات تحرر عنيفة ضد كل ما هو غير إفريقي.
ضمن هذا السياق، ظهرت:
- الحركة الشعبية لتحرير السودان: للتحرر من الثقافة العربية الإسلامية.
- حركة تحرير دارفور: لاحقاً تحولت إلى حركة تحرير السودان، لتحرير الإقليم من “الإسلامو-عروبية”.
- حركة العدل والمساواة: التي أصدرت لاحقاً “الكتاب الأسود” كوثيقة سياسية عن الظلم في توزيع السلطة والثروة.
اتفاقيات قريش ومشروع السودان أرض الميعاد
القبائل العربية في دارفور كانت جزءاً من دائرة العنف، والصراعات البينية ظلت مستمرة لعقود. لكن ما ميّزهم هو امتداداتهم الاجتماعية العميقة في غرب إفريقيا. بُنيت سردية على أساس هذه الامتدادات، ومن خلالها نشأت اتفاقيات قريش عام 1987، التي أوصت بضرورة وصول عرب دارفور (العطاوة الجنيدية) إلى الحكم في الخرطوم بحلول عام 2020.
وشملت تفاصيل لتوزيع أراضي دارفور على عرب وافدين من تشاد، النيجر، مالي، ليبيا، الكاميرون، وأفريقيا الوسطى، في مشروع يُعرف في بعض الدراسات بـ:
السودان أرض الميعاد
قطع الصلة مع دارفور
في أول تعليق تحليلي للصادق الرزيقي عن الرئيس السابق البشير، أشار إلى ضرورة وضع نهاية فاصلة للاجتماع السياسي مع دارفور. وبصرف النظر عن تحليل الرزيقي، فإن الفكرة تشي برغبة عميقة في الانفصال السياسي والثقافي.
نحو دولة جديدة: العودة إلى سنار
لا مناص من فكّ الارتباط بين سودان دولة سنار التي امتدت لـ 350 عاماً، وسودان 1956 الاستعماري الذي لم يتعدَّ عمره 70 سنة.
وحدة لم نختَرها ولم نُصوّت لها.
سبعون عاماً كانت كافية لوضع حد لشلالات الدم، وبراكين العنف، وخطابات المركز والهامش. كافية لتمزيق الكتاب الأسود، وتحطيم اتفاقيات قريش، والخروج من عباءة مشاريع فاشلة مثل “السودان الجديد”، “دولة العطاوة”، و”دولة الزغاوة”.
اقرأ ايضا: العودة إلى سنار : دعوة لتأسيس الحلم من الجذور
هل تتفق معنا؟
روابط: أول