Site icon الديوان

أرقام تعيد رسم حدود الدولة: دارفور والهامش الذي ابتلع المركز

اقليم دارفور

اقليم دارفور

هل كانت دارفور رافعة اقتصادية فعلاً في السودان أم عبئًا على الدولة؟ هل حُرمت من التنمية، أم أنها استنزفت من ميزانية الدولة أكثر مما ساهمت به؟ وما طبيعة الدور الذي لعبته الحركات المسلحة هناك: هل كانت أداة تحرر أم وقودًا لصراعات دائمة؟

هذه الأسئلة التي ظلت لعقود في قلب النقاش السوداني، تجد اليوم إجاباتها ليس فقط في الأرقام والوقائع الاقتصادية، بل في المسارات السياسية والعسكرية، التي تُظهر كيف تحوّل الإقليم من ملف تنموي إلى أزمة مستدامة تهدد وحدة الدولة وبقاءها.

مساهمة دارفور في الاقتصاد: أرقام تعكس هشاشة حقيقية

منذ الاستقلال وحتى اندلاع الحرب الأخيرة في 2023، لم تتجاوز مساهمة ولايات دارفور مجتمعة 5% من الناتج المحلي الإجمالي (GDP) في أفضل الأحوال. ومع الحرب، انخفضت هذه النسبة إلى أقل من 2%، رغم أن سكان دارفور يشكلون أكثر من 16% من مجموع سكان السودان.

مقابل ذلك، كانت ولايات مثل الخرطوم ونهر النيل والشمالية تنتج أكثر من 60% من الناتج المحلي، بفضل توفر البنية التحتية والزراعة الآلية والصناعات التحويلية والتعدين الرسمي.

تكاليف الحرب: إنفاق ضخم بلا مردود

أنفقت الحكومة السودانية ما يقارب 30.5 مليار دولار على العمليات العسكرية في دارفور بين عامي 2003 و2013 فقط – وهو مبلغ يعادل 171% من الناتج المحلي الإجمالي للسودان عام 2003، الذي بلغ 17.8 مليار دولار (المصدر: مركز الجزيرة للدراسات). ورغم هذا الإنفاق المهول، ظلت مساهمة الإقليم لا تتجاوز 2–3% من الناتج، معظمها من الزراعة المطرية والثروة الحيوانية.

هذا التفاوت يشي بأن ما صرفته الدولة على دارفور يفوق بكثير ما جَنَته منها، وهو ما لا يُفسر بالتهميش وحده، بل يكشف عن بنية غير فعالة تُديرها نخب تستفيد من بقاء الصراع لا من حله.

ثروات غير مُستغلة: الزراعة، الذهب، والثروة الحيوانية

رغم أن دارفور تساهم بـ25–33% من الثروة الحيوانية في السودان، إلا أن هذا القطاع لا يشكل سوى 2–3% من الناتج المحلي، ما يجعل المساهمة الفعلية لدارفور فيه أقل من 1%. وكذلك في الزراعة، فإن إنتاج دارفور من السمسم (28%) والصمغ العربي (20%) لم يُترجم إلى مساهمة فعالة في الاقتصاد القومي.

أما الذهب، فقصته مأساة مكررة: أكثر من 80% من إنتاج السودان في 2019 (نحو 4 مليارات دولار) تم تهريبه، وأغلبه من دارفور وكردفان، ما حرم الدولة من عوائد ضخمة، وساهم في تمويل المليشيات التي باتت اليوم فاعلاً اقتصادياً موازياً للدولة.

من التحرير إلى الغنيمة: انقلاب الحركات المسلحة

منذ اندلاع الحرب الشاملة في أبريل 2023، كشفت الحركات المسلحة في دارفور عن تحولات حادة في تموضعها السياسي. فبينما سقطت مدن الإقليم الكبرى بيد قوات الدعم السريع، تبنت هذه الحركات مواقف “الحياد الإيجابي”، حتى اقتربت المعركة من الفاشر.

عندها فقط بدأت بعض القيادات – مثل مني أركو مناوي – إصدار تصريحات ضد الدعم السريع، في محاولة لإعادة التموضع السياسي. لكن الواقع كان أوضح: ما بدا انسحابًا تكتيكيًا، اتضح لاحقًا أنه تحالف استراتيجي مع الدعم السريع، هدفه تقاسم الغنائم لا تحرير الوطن.

الارتزاق والتحالفات العابرة للحدود

سبق للحركات المسلحة أن شاركت في النزاع الليبي كمرتزقة، وهي اليوم تنسق علنًا أو ضمنيًا مع قوات الدعم السريع في إدارة المناطق المحتلة. هذا التحول من خطاب “التحرير” إلى “التمكين الذاتي” لم يأتِ من فراغ، بل من تقاطع المصالح، حيث الحرب تُدر مكاسب أكثر من السلام.

فمن تحرير السودان إلى احتلاله، ومن المظلومية إلى الشراكة في القتل، تحوّلت دارفور من منطقة مهمشة إلى حاضنة للفوضى، لا تُصدّر التنمية بل المليشيات.

الاستيطان الجديد: الكنابي وتمكين ديمغرافي عكسي

في الوقت الذي كانت فيه الفاشر تحترق، اتجهت بعض الحركات المسلحة نحو ولاية الجزيرة، حيث عملت على تسليح عناصر من نازحي دارفور في مناطق “الكنابي”، في محاولة لإعادة إنتاج مشروع ديمغرافي يفرض واقعًا جديدًا. هذا التوجه ليس إلا امتدادًا لسياسات التطهير العرقي التي مورست سابقًا في دارفور، ولكن هذه المرة خارج الإقليم.

فمن منطق “الحق التاريخي”، تُفرض هيمنة ديمغرافية قسرية، تكرر أخطاء المركز ولكن بلون إثني مختلف، ما يُعمّق الشرخ الاجتماعي ويقوض أي أفق للوحدة الوطنية.

اقتصاد الكفاف والمجتمع المعتمد

تفيد تقارير الأمم المتحدة بأن أكثر من 3 ملايين نازح من دارفور يعتمدون كليًا على المساعدات الإنسانية. النزوح المستمر دمّر الاقتصاد المحلي، وخلق مجتمعًا معتمدًا، غير قادر على النهوض بنفسه. ولم تسعَ الحركات المسلحة، رغم حصتها من السلطة والموارد، لبناء نموذج اقتصادي بديل، بل استمرّت في تكرار المظلومية لتبرير استمرارها كقوة سياسية وعسكرية.

أمراء الحرب: النخب المسلحة بدل السياسيين

لا وجود لسياسيين مدنيين في دارفور اليوم. المشهد مُحتكر من قادة المليشيات: جبريل إبراهيم، مناوي، الطاهر حجر وغيرهم، لا يُعرفون بخطط تنموية أو رؤى وطنية، بل بقوتهم على الأرض. هؤلاء لا يصعدون عبر صناديق الاقتراع أو النقاش العام، بل عبر البندقية وتكتيكات الحرب.

في هذا الواقع، أصبحت الحرب أسلوب حياة، أداة تمكين ونفوذ، لا وسيلة اضطرارية. والسلام بات تهديدًا لمكاسبهم، لا فرصة لحل دائم.

دارفور اقليم الإبادات الجماعية : حملات عبد الله التعايشي

منذ أواخر القرن التاسع عشر، شكّل إقليم دارفور بؤرة انطلاق لحملات عسكرية مدمّرة، أبرزها حملة عبد الله التعايشي، الذي قاد جيوشًا أغلبها من قبائل دارفور نحو مناطق وسط السودان، وارتكب مجازر ممنهجة ضد سكان النيل الأوسط والجزيرة، خصوصًا أبناء قبائل الجعليين والشايقية. لم تكن تلك الحملات مجرد معارك سياسية بل أخذت طابعًا عنصريًا واضحًا، تمثل في القتل على أساس الهوية، والسبي، والتهجير القسري. وقد أسهمت تلك الممارسات في إحداث خلل ديمغرافي خطير، غيّر التركيبة السكانية لاحقًا، حين اندفعت موجات من الهجرات القسرية والنازحين نحو المدن الكبرى، خاصة الخرطوم، مما مهّد لتكوين واقع سكاني مشوه وغير متوازن حتى اليوم.

اقرأ ايضا : الهولوكوست النهري المحرقة المنسية في تاريخ النهريين

دارفور : حروب داخلية لا تتوقف

لم يعرف إقليم دارفور فترات طويلة من الاستقرار، إذ تحوّل إلى مسرح دائم للصراعات القبلية التي حصدت أرواح الآلاف من المدنيين. فقد شهد الإقليم خلال العقود الثلاثة الأخيرة أكثر من 80 صراعًا قبليًا مسلحًا بين الزرقة والعرب، وبين الفور والمساليت والزغاوة والرزيقات، وحتى داخل المكونات نفسها. وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن النزاعات القبلية بين عامي 2003 و2020 وحدها تسببت في مقتل أكثر من 300 ألف شخص، وتهجير ما يزيد عن 2.5 مليون مواطن. ورغم توقيع عدد من اتفاقيات السلام، استمرت الاشتباكات بنمط دموي، مما جعل الإقليم يبدو وكأنه “دولة داخل الدولة”، خارج سيطرة المركز، ومتروك لتوازنات القوة القبلية المسلحة.

من دارفور إلى أم درمان : عملية الذراع الطويل

على امتداد العقدين الماضيين، لم تقتصر الحركات المسلحة الدارفورية على القتال داخل الإقليم، بل حملت تمرّدها إلى قلب الدولة. ففي مايو 2008، نفذت “حركة العدل والمساواة” بقيادة خليل إبراهيم، عملية عسكرية نوعية وصلت إلى مدينة أم درمان، في سابقة خطيرة هددت سيادة الدولة المركزية بشكل مباشر. جاءت تلك العملية تتويجًا لمسار طويل من التمرد الدارفوري على الدولة، تحت غطاء سياسي وعرقي. وعلى الرغم من الفشل العسكري للعملية، إلا أنها كشفت عن حجم القوة والتنسيق داخل هذه الحركات، وعمق التحدي الذي باتت تمثله لهيبة الدولة ومؤسساتها.

تمرد دارفور الأخير : بقيادة حميدتي وتحالف الزرقة

بلغ التمرد ذروته في أبريل 2023، حين قاد محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وهو من عرب دارفور، تمردًا شاملاً ضد الجيش السوداني، مدعومًا بعدد كبير من الحركات المسلحة الدارفورية التي يفترض أنها كانت تاريخيًا على خلاف عميق مع مكونه العربي. وقد شكل انضمام قادة مثل الطاهر حجر وسليمان صندل (حركة العدل والمساواة)، إلى جانب تحالفات موقعة في اتفاق نيروبي مع قوات عبد العزيز الحلو واتافق ضمني مع عبد الواحد نور، تحولًا غير مسبوق في الاصطفاف السياسي والعسكري في السودان. هذا التمرد الكاسح لم يكن صراعًا بين قوات أمنية فقط، بل كشف عن نزعة مقلقة لاختطاف الدولة من قبل تحالف مسلح عابر للهوية، جمع بين الزرقة والعرب جميعهم من درافور، ضد المركز، مما زاد من معاناة سكان شمال ووسط وشرق السودان الذين باتوا وقودًا لحرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

المرحلة القادمة: هل نحن أمام دولة نهرية جديدة؟

مع تصاعد تحالفات الدعم السريع مع حركات دارفور والحركة الشعبية (عبدالعزيز الحلو) وتنظيمات مثل كومولو، يبرز سؤال ثقيل: هل اتفاق نيروبي نواة لحكومة بديلة؟ وهل ما نشهده اليوم هو ولادة “دولة نهرية” جديدة تقفز فوق المركز؟

وربما، بكل واقعية، ما يجري هو تفكك الدولة السودانية، وخروج “الحمل الدارفوري” من ظهرها، ليبدأ مشروع آخر، لا يشبه ما عرفناه، لكنه نتيجة طبيعية لعشرين سنة من مغارة دارفور السياسية.

خلاصات وتحذيرات استراتيجية

خاتمة: دارفور كأزمة وطن لا قضية إقليم

إن اختزال أزمة دارفور في خطاب “المظلومية” وحده يُعد نوعًا من التضليل المتعمد، إذ بات هذا الخطاب أداة ابتزاز سياسي تُستخدم لإسكات كل محاولة جادة لطرح تساؤلات موضوعية، مع وصم أصحابها بالعنصرية. غير أن واقع الإقليم اليوم يكشف عن أزمة مركبة تتداخل فيها الأبعاد الاقتصادية، والسياسية، والأمنية، والاجتماعية، والديمغرافية، الأمر الذي يستدعي إعادة التفكير جذريًا في طبيعة العلاقة بين المركز ودارفور، وبين الدولة والحركات المسلحة، بل وبين وجود هذا الإقليم المضطرب ضمن الدولة السودانية ذاتها. وإذا لم تُناقش هذه القضايا بموضوعية وحيادية، وعلى أساس المصلحة العليا للدولة، خصوصًا مصالح الأقاليم الأخرى التي تتحمّل كلفة مباشرة نتيجة ما ينتجه هذا الإقليم من نزاعات وانفلاتات وأعباء إنسانية واقتصادية وأمنية، فإن المآسي القادمة لن تتوقف، بل ستظهر بأشكال أكثر تعقيدًا، وبتكاليف أفدح.

اقرأ ايضا : مجزرة بوط في النيل الأزرق : ذبح الرعاة باسم اتفاقية جوبا

Exit mobile version