أرسل إلي أحد الأصدقاء رابطاً لمقال منشور في صحيفة “لوموند” الفرنسية يحذر كاتبه من مساعي دولة إقليمية لتقسيم السودان. كان هذا المقال بالنسبة إليه دليلاً على أن البلد، الذي يعيش حرباً ضروساً منذ أكثر من عامين، يواجه خطر التشظي. ما لفتني في المقال لم يكن مجرد طرح موضوع التفكك والتقسيم، وإنما ذلك القلق الواضح من حدوث ذلك. في حقيقة الأمر، فإن مقال “لوموند” ليس الوحيد، الذي يقرع جرس الإنذار ويرفع أصوات التحذير، بل إن هناك مقالات لا تُحصى تسير في الاتجاه ذاته في الإعلام الأوروبي والغربي.
من هو كاتب المقال ؟
جان بيير فيليو كاتب مقال “لوموند” ليس صحافياً أو مجرد كاتب رأي عادي، بل هو شخص ذو أهمية باعتبار خلفيته الأكاديمية وكونه كان دبلوماسياً ورجلاً عمل مستشاراً لكل من وزير الداخلية ووزير الدفاع ورئيس الوزراء الفرنسي. فيليو كان أيضاً ضمن نخبة من مستشاري الأمن والدفاع في فريق الرئيس الأسبق فرانسوا هولاند. هذا كله يجعل مقاله، وإن كان كتبه بشكل مستقل، يحمل بشكل ما نفس الدولة ومخاوفها.
قلق غربي متزايد من التقسيم الجديد
بشكل عام، ولأن الإعلام مرتبط بالسياسة حتى في بلدان الغرب، فإن هذا السيل من المقالات والبرامج الإعلامية لا يمكن فصله عن المواقف السياسية القوية التي عبّر عنها مسؤولون غربيون بشأن فرضية انقسام السودان، حيث أكدت جميع تلك الأصوات، بما فيها تلك الصادرة عن مسؤولين في دول لا تبدو شديدة الانشغال باليوميات السودانية، رفضها لأي اتجاه ينحو ناحية التقسيم. كصدى لهذه المواقف الغربية كانت منظمات إقليمية على رأسها الاتحاد الإفريقي تعبر بدورها عن وقوفها مع السودان الموحد وتقديمها كل الدعم المطلوب من أجل صد مساعي الانفصال.
كل هذا يجعلنا مجبرين على مواجهة سؤال مهم وهو: ما الذي يقلق الغرب، الذي سبق له أن دعم بحماس استقلال أقاليم جنوب السودان، في موضوع تكوين دول جديدة في الجغرافيا السودانية؟ يجب التذكير هنا بأن جنوب السودان كان حالة خاصة، حيث كان انفصاله يمثل رغبة دولية وإقليمية عارمة تم الاشتغال عليها وتهيئة ظروفها منذ عقود. انفصال جنوب السودان كان يمثل أمراً إيجابياً للمحيط الإفريقي، الذي كانت ترى أغلب دوله فيه انتصاراً لرؤية المركزية الإفريقية، كما كان يعتبر ذلك هدفاً للغرب، الذي كان يريد إضعاف السودان كدولة مشاغبة وحرمانه من عائدات البترول، التي كانت تمثل آنذاك أهم مصادر الميزانية.
دارفور ليست الجنوب.. ومخاوف انفجار جديد
بالمقابل، فإن الانفصال الذي تقود إليه أحداث حرب السودان الحالية مختلف. يخشى الجميع من أن تقود محاولة خلق حكومة في منطقة سيطرة المتمرد محمد حمدان دقلو “حميدتي”، إلى إنشاء دولة أمر واقع في منطقة دارفور – غرب السودان – وهو ما يحمل عدداً من المخاطر، التي لم تكن موجودة إبان استقلال الإقليم الجنوبي. أول هذه المخاطر هو أن قيام دولة تحت قيادة حميدتي ومجموعته، التي عرفت بقيامها بجرائم موثقة ضد القبائل الإفريقية في المنطقة، يمثل تهديداً أمنياً لأغلب دول الجوار.
فالسردية التي ساهمت في جلب تعاطف لحركة المتمرد الجنوبي جون قرنق، والتي كانت تقوم على فكرة اضطهاد العرب الشماليين للعناصر الإفريقية الجنوبية، نراها معكوسة هنا، حيث ينتمي حميدتي لأقلية عربية دارفورية ترى أنها أحق بالحكم وبالثروة من غيرها، بل تسعى لإفراغ الإقليم من كل المكونات الأخرى عبر القتل والتضييق والتهجير. صحيح أن دولاً إفريقية كثيرة بدت داعمة في البداية لتمرد حميدتي، إلا أن هذا لم يكن يعني الموافقة على اقتطاعه مساحة منفصلة من الحدود السودانية.
دولة الجنجويد.. وصفة فشل ومصدر فوضى
إذا وضعنا في الاعتبار المصاعب السياسية والاقتصادية وأزمة الاستقرار والحروب، التي واجهت دولة جنوب السودان عقب استقلالها، على الرغم من أن ذلك الانفصال أخذ وقتاً أطول من ناحية التجهيز والإعداد، فإنه يمكن توقع أن دولة تقوم بشكل متسرع تحت راية “الجنجويد” العنصرية لن تكون إلا نموذجاً أكثر بؤساً للفشل، وهو ما ظهر بشكل واضح في نماذج المناطق، التي بسط المتمردون سيطرتهم عليها. الذي حصل هو أنه ومع تمتعهم بقدرة كبيرة على التخريب والتدمير، إلا أن جماعة حميدتي كانت غير قادرة على تدبير أمر المواطن أو تسيير الحياة، إلا بشكل بدائي يقوم على متابعة السلب والنهب من أجل توفير القليل من المتطلبات الأساسية.
بالتأكيد فإن ما يشغل “المجتمع الدولي” ليس الوضع الإنساني وحالة البؤس، التي سوف تصاحب سكان الدولة الجديدة، بقدر ما أنه منشغل بتأثير ذلك على المحيط الإقليمي، وما سيترتب عليه من إشاعة حالة عدم الاستقرار في إقليم لا ينقصه التوتر. سوف يكون لكل ذلك – وفق النظرة الغربية – تأثيرات سلبية تتمثل في توسيع دائرة الفوضى، ما سيتسبب في تدفق السلاح وتغذية الإرهاب وتنشيط حركة المهاجرين.
دعم محدود لا يصل حد الاعتراف بالدولة
وهكذا يمكن القول إن الدعم والخدمات اللوجستية، التي تم تقديمها بسخاء، لم تكن تهدف للوصول بالأمور إلى الانفصال، بقدر ما كانت تريد خلق توازن يجعل قوات حميدتي قادرة على الصمود والبقاء بشكل قوي وأساسي في المشهد. ذلك الدعم كان يهدف أيضاً للمساعدة في توجيه ضربات مؤلمة تستطيع إلحاق الأذى بالجيش السوداني، بما يمنعه من تحقيق نصر سريع أو تقدم على محاور واسعة دون خسائر بشرية ومادية.
ربما لم يفهم حتى حميدتي ورفاقه هذه المعادلة بشكل صحيح، ولذلك فقد صدموا، حين عرضوا مشروع الدولة الموازية والإدارة الخاصة، بردود الأفعال الصادرة عن دول ومنظمات كانوا يظنون أنها ستقف معهم حتى النهاية. جوهر المعادلة هو أن وجود الجنجويد – كمجموعة من المقاتلين المعتادين على الحرب والقتال في ظروف جغرافية صعبة – لا غنى عنه حالياً ضمن خريطة الفاعلين في الإقليم المضطرب.
وجود هؤلاء المقاتلين الشرسين، الذين لا يجدون بأساً في التحول لمرتزقة بثمن هو الأكثر تنافسية، مهم حيث لا يُستبعد أن تحتاجهم قوى دولية أو إقليمية في المستقبل القريب لخوض حروب بالوكالة، خاصةً وأننا في زمن علت فيه أسهم الارتزاق. كل ما سبق لا يعني، في الوقت ذاته، أن تلك الجهات المؤثرة في القرار الدولي مستعدة لتقديم دولة ومساحة من الأرض لعصابة خارجة عن كل القوانين ولا تتورع عن فعل أي شيء من أجل الحصول على مزيد من المال والنفوذ.
اقرأ ايضا: الخطر القادم : ميليشيات الحركات المسلحة الدارفورية
وحدة السودان خط أحمر.. واللعب على التناقضات مستمر
كانت رسالة تلك الجهات تقول إننا معكم وندعم إشغالكم للجيش وتحرككم في مواقع مختلفة في وقت واحد، كما أننا سنضغط من أجل وقف أو تمييع الإدانات والعقوبات الصادرة بحقكم، لكن وحدة هذا البلد تظل خطاً أحمر، كما يظل الاتجاه نحو التقسيم وتغيير الخريطة السياسية أمراً غير مقبول، على الأقل في الوقت الحالي.
من جانب آخر، هناك من يرى أن بقاء السودان بخريطته السياسية الحالية مهم لأسباب أخرى، حيث إن وجود إقليم دارفور – بما أنتجه من حركات متمردة متوزعة بين السلطة والمعارضة ومن خطاب تهميش لم تعد كثير من النخب تستطيع تجاوزه – لا غنى عنه، ليس فقط بالنسبة لمن يرون أن الواجب الوطني يدعوهم للحفاظ على الحدود بشكلها الكلاسيكي، وإنما حتى لأعداء البلاد ولمن ظلوا يرغبون في إضعافها والسيطرة عليها. بالنسبة لهؤلاء، فإنه لا أسهل من التدخل عبر مدخل الاضطهاد ومساعدة الأقليات المهمّشة.
الروابط: ماذا سيبقى من السودان في عام 2025؟
تعليق واحد
مقال مميز