لفهم ما حدث في معركة أم صميمة وأسبابها، من الضروري العودة إلى المشهد السياسي والعسكري الذي سبقها. ففي الفترة التي سبقت المعركة، وقعا حدثان مهمان للغاية؛ الأول يتمثل في انسحاب “حركات الزغاوة” من منطقتي “المثلث” و”كرب التوم”، وكان هذا الانسحاب جزءاً من استراتيجية ابتزاز موجهة لقيادة الجيش، بهدف إجبارها على تسليم الوزارات الإيرادية في حكومة كامل إدريس.
على هامش الموضوع: لاحظ أن قادة الجيش، من شدة هوانهم، حتى الآن لم يقوموا بعمل محكمة ميدان للحركات، رغم اعترافهم بأنهم انسحبوا بغرض ابتزاز الجيش.
هذا الأمر – بعد عمل منظم ومجهود كبير من التيار الانفصالي – وضع “حركات الزغاوة” في موضع الارتزاق إلى درجةٍ لم يعد فيها الصحفيون والنشطاء الشماليون الذين وظّفتهم الحركات، أمثال: الإنصرافي، حسين ملاسي، بكري المدني وأحمد شموخ، قادرين على الدفاع عنها أو تلميعها مجدداً. وتمّ حرقها سياسياً بصورة تامة وسط مجتمعات شمال ووسط وشرق السودان.
ثانياً: ما حدث في منطقة “كازقيل”
كعادتها، “حركات الزغاوة” هربت وتركت أفراد الجيش وهيئة العمليات والبراؤون والمستنفرين ليواجهوا مصيرهم المحتوم على يد الجنجويد. هذا النمط – الذي تكرر منذ معارك تحرير المصفاة التي استشهد فيها البطل محمد صديق وصحبه، وحتى كارثة متحرك المنتصر بالله ومتحرك الفاو – جعل الجميع يستوعب رؤية الانفصاليين التي فسّرت كسر “حركات الزغاوة” للصناديق القتالية في المحاور التي تشارك بها، بأنه يأتي ضمن مشروع استراتيجي تهدف من خلاله الحركات إلى القضاء على العنصر البشري المقاتل الذي ينتمي إلى شمال ووسط وشرق السودان.
هذان الحدثان وضعا “حركات الزغاوة” المسلحة تحت ضغط رهيب، ولذلك كان لابد من إيجاد حدث يبرر التحالف معها، رغم أنها مهزومة وتعمل كسكين تطعن في خاصرة الجيش وهيئة العمليات وقوات البراء بن مالك والمستنفرين، وتسبب لهم كارثة في كل متحرك. وهذا يقودنا إلى ما حدث في أم صميمة.
ما الذي حدث في أم صميمة؟
المعلومات أدناه تم مطابقتها من عدد من جرحى العمليات الموجودين في مستشفى الأبيض.
هجمت قوة من الجنجويد تُقدّر بـ ١٢٠ عربة قتالية على المنطقة. قوة التأمين الموجودة كانت بصورة أساسية تتألف من: الجيش، هيئة العمليات، البراء بن مالك، والمستنفرين، وكانت في وضعية دفاعية داخل الخنادق وليست محمولة على الكروزرات. بينما كانت قوة “حركات الزغاوة” متمركزة بالقرب من المدينة ولديها تسليح ثقيل وعدد كافٍ من العربات المسلحة بالثنائيات والرباعيات كافٍ لصد الهجوم.
عند بداية الهجوم، استبسلت القوة الموجودة في المنطقة، خصوصاً أبطال لواء البراء بن مالك وهيئة العمليات، في الدفاع عن المدينة، وقدموا أرتالاً من الشهداء. وعندما اشتد الهجوم، طلبت القوة الدعم من “حركات الزغاوة”، لكنهم رفضوا التدخل في بداية المعركة. وبعد أن قامت قوات المدينة باستنزاف الجنجويد وإلحاق خسائر كبيرة بهم، مما جعل التغلب عليهم سهلاً، تدخلت الحركات المسلحة لتحصد النصر الذي كان محسومًا أصلاً بعد مجهود أبطال البراء بن مالك وهيئة العمليات والمستنفرين. ببساطة: “حركات الزغاوة” سرقت الانتصار الذي هو أصلاً من نصيب من قدم الشهداء ووقف في الميدان.
الأهداف من سلوك “حركات الزغاوة”:
الهدف الأول: “نحن أرجل منكم وبنقاتل ليكم الجنجويد” هذه هي الرسالة التي أرسلها أحد أفراد التوجيه المعنوي التابع لـ “حركات الزغاوة” عبر مقطع مصور في أم صميمة، قال فيه نصاً: “نحن الآن داخل الخنادق التركها الجيش وطردنا منها الجنجويد” ، وبالتالي: هم من يحق لهم ابتزاز الدولة وأخذ المناصب والتعامل مع الوزارات كأنها حاكورة لقبيلة الزغاوة.
الهدف الثاني: إفناء العنصر البشري المقاتل لمجتمعات شمال ووسط وشرق السودان. تدرك “حركات الزغاوة” جيداً أن السد المنيع أمام مشروعها لتأسيس دولة الزغاوة الكبرى في السودان هو مجموعات البراؤون وهيئة العمليات. ولذلك تعمل عبر استراتيجية كسر الصناديق القتالية على إفنائهم خلال المعارك عبر تركهم للجنجويد.
الهدف الثالث: زيادة الرصيد السياسي تقوم بذلك عبر سرقة الانتصارات، وتوجيه الصحفيين التابعين للحركات لتلميعها عبر حملات منظمة. الهدف من هذا هو ابتزاز قادة الجيش لاحقاً.
الهدف الرابع: تأخير المعارك حتى لا تنتقل إلى دارفورتظن “حركات الزغاوة” أن انتقال الحرب إلى دارفور هدفه إضعافها. ولذلك تسعى لإبقاء الحرب في كردفان، مع إبقاء جنودها في الولايات الآمنة لاستخدامهم كورقة ضغط وابتزاز للدولة، خصوصاً بعد تواتر معلومات عن عقد الحركات لتفاهمات مع الجنجويد بعد المساس بحواضنهم الاجتماعية في شمال دارفور (وادي هور، التينة، كرنوي) تحت رعاية محمد كاكا.
ختامًا، تكشف معركة أم صميمة عن واقع معقد تتشابك فيه المصالح السياسية والاستراتيجيات العسكرية، حيث لم تكن المواجهة مجرد اشتباك عسكري، بل مسرحًا لخيانة وتحالفات مكشوفة تهدف إلى استنزاف مكونات الشمال وإضعاف قواه الحقيقية. إن فهم هذه المعركة والوقائع التي سبقتها يشكل خطوة أساسية نحو تصحيح المسار وإعادة بناء الثقة بين المكونات الوطنية، وضمان أن تظل الدماء التي سُفكت من أجل الوطن علامة على التضحية والوفاء، لا وسيلة للاستغلال والمصالح الضيقة.
اقرأ ايضا: بيان انطلاق مشروع دولة النهر والبحر : دعوة للسلام وتقرير المصير في السودان
تعليقان
مقال في غاية الأهمية
مقال يدير الضوء على الزوايا المعتمة