في أعمق لحظاتي مع نفسي صدقاً، لا أراني أعظَمُ مَيلاً للحديث عن الشخصيات. إن تكرَّمَت وأسعفَتني الذاكرة، فقد كتبتُ سابقًا عن فيلسوفِ الغناء مصطفى سيد أحمد، والموسيقار الكابلي، والمشير البشير، وشاعر إفريقيا الثائر؛ الفيتوري والان أكتب عن الدكتور عبدالرحمن عمسيب .
لا أجدُني مضطراً لمدح الرجال، ولكنها إحدى لحظات الإنصاف، ومن حسن أخلاق الرجال أن ينصفوا أعداءهم، دعك من أبناء جلدتهم ونبلائهم. الرجل ليس من قومنا فحسب، بل هو شريف قوم وخادمهم. خطابه الجَسور يهبط حاملاً “خطاب” ابن يعمر الإيادي لقومه، وخطبة درويش “الهندي الأحمر”، و”بائية” أبي تمّام، وتراجيديا الفيتوري في “التراب المقدّس”.
عبد الرحمن عمسيب: المفكر ورائد التنوير
عمسيب، لم يكن حالة مثقفٍ عادية، بل كان مثالًا للمثقف العضوي قويّ الشَّكِيمَة، العاملِ على المقاومة والتغيير والتحذير، المحاربِ في ميادين التفاهة والتغييب والتخدير. كان المتمرد على طبقته، رائد التنوير في قومه، وظلّ يؤسس معرفيًا وبأفقٍ عَالمٍ لنظرية اجتماعية، نظرية ربما لم تُطرح في السوح الثقافية والاجتماعية من قبل، أو لربما نوقشت على استحياء في همهمات أحاديث المدينة أو طُرحَت في ظلام الخرطوم عَهداً ثم غابت. هذا الرجل امتلك من الجسارة والثقافة العميقة بتفاصيل الأشياء وخباياها ما جعله يُقدم على تحطيم الأصنام السياسية والثوابت الاجتماعية وينفض الغبارَ عن المسكوت عنه في الثقافة والاجتماع والسياسة.
اقرأ ايضا: العودة إلى سنار : دعوة لتأسيس الحلم من الجذور
نظرية النهر والبحر: تحليل الاجتماع السياسي السوداني
عمسيب قدم نظريةً للتحليل الاجتماعي والسياسي، يمكن تسميتها بنظرية “عوامل الاجتماع السياسي” أو نظرية “النهر والبحر” في الحالة السودانية. فحواها أن الاجتماع البشري يقوم على أسس راسخة وليس على أحداث عابرة. فالاجتماع البشري ظلّ منذ القدم حول (القبيلة Tribe) ثم (القوم Nation) ثم (الوطن Home) ثم (الدولة country). هذا التسلسل ليس اجتماعيًا فحسب، بل تاريخي أيضًا، أي أن مراحل التحَولات العظيمة في بِنية المجتمعات لا يصح أن تقفز فوق الحقب الاجتماعية (حرق المراحل).
المجتمعات القَبَلية لا يمكنها إنتاج (دولة) ما لم تتحول إلى (قومية)، ثم تُنتج (وطن) الذي يسع عددًا من القوميات، ثم (دولة) التي تخضع لها هذه القوميات على الوطن، مع تعاقد هذه القوميات اجتماعيًا على مبادئَ مشتركة، وقيمٍ مضافة، كالأمن والتبادل الاقتصادي وإدارة الموارد، والحريات الثقافية ونظام الحكم.
الاستعمار: تدمير التحولات الطبيعية
هذه النظرية تشير إلى أن الاجتماع السياسي في السودان ظل في مساره الطبيعي لمراحل التسلسل التاريخي للمجتمعات والكيانات، إلى أن جاءت لحظة (الاستعمار). ما فعله الاستعمار حقيقة، أنه وبدون وعي كامل منه، حرق هذه المراحل قسريًا وحوّل مجتمعات ما قبل الدولة (مجتمعات ما قبل رأسمالية) إلى مجتمعات تخضع للدولة. فالمجتمعات التي كانت في مرحلة (القبيلة) أو تلكَ في مرحلة (القومية) قام بتحطيم بنيتها وتمحوراتها الطبيعية وتحويلها إلى النموذج الرأسمالي الغربي، خضوع قسري لمؤسسات الدولة الحديثة.
هذا التفتيت لمفاهيم الولاءات القديمة الراسخة، بل وتغييرها إلى نظم شبه ديمقراطية، لم يفلح. فبعد أن حطّم المستعمر ممالك الشايقية ودولة سنار ومشيخات العرب بكردفان ومملكة الفور، وضم كل ذلك النسق الاجتماعي (القبلي/ القومي) إلى نسق الوطن/ الدولة، أنتج ذلك نخبًا وجماعات سياسية (ما بعد كولونيالية) تعيش داخل الدولة، لكنها تدير الدولة باللاوعي الجمعي المتشبّع بالأنساق التقليدية (القبيلة/ الطائفة/ القومية) أي مراحل ما قبل الوطن والدولة.
الصراعات المستمرة: الحرب في السودان
ما نتج عن كل هذه العواصف السياسية والاجتماعية، والاضطرابات الثقافية، أن هذه المجتمعات والقوميات التي وجدت نفسها فجأة مع بعضها في نسق جديد غير معتاد يسمى (الدولة)، وأقصد بعبارة “وجدت نفسها فجأة” أي أن هذا الاجتماع البشري في الإطار السياسي لم يتأتَ عبر التمرحل الطبيعيّ الإنسانيّ المتدرج للمجتمعات. لذا برزت العوامل النفسية والتباينات الثقافية الحادة، ما جعل الحرب تبدأ في السودان بتمرد 1955 حتى قبل إعلان استقلاله. ذات الحرب وعواملها الموضوعية ومآلاتها هي ذات الحرب التي انطلقت في 2002 ثم الحرب الأعظم في تاريخنا 2023.
اقرأ ايضا: حدود السودان التاريخية : ما هي الخريطة الرسمية لدولة النهر والبحر؟
الهجرات الكبرى: أثرها على الوضع الاجتماعي والسياسي
أمر آخر شديد الأهمية، أن دكتور عبد الرحمن ألقى حجرًا في بركة ساكنة، وطرق أمرًا من المسكوت عنه، وهو ظاهرة الهجرات الواسعة لقوميات وسط وغرب إفريقيا عبر السبعين عامًا الماضية (على الأقل). فظاهرة اللجوء والهجرات الكبيرة لقبائل كاملة من مواطنها لأسباب التصحر وموجات الجفاف التي ضربت السهل الإفريقي، ألقت بملايين البشر داخل جغرافيا السودان. مما يعني بالضرورة المزيد من المنافسة العنيفة على الأرض والموارد، وبالتالي اشتداد الحروب والصراعات بالغة العنف، وانتقال هذا التهديد الاستراتيجي إلى مناطق ومجتمعات وسط وشمال السودان.
النظرة المستقبلية: نحو فهم أعمق للمجتمع السوداني
عبد الرحمن عمسيب ليس مجرد مفكر يعبر عن آرائه، بل صاحب مشروع فكري متكامل لفهم الأبعاد الاجتماعية والسياسية في السودان. من خلال نظرية “النهر والبحر”، قدم تحليلًا نقديًا عميقًا لفهم طبيعة التحولات التاريخية والاجتماعية التي مر بها المجتمع السوداني. وهذه النظرية تعد نقطة انطلاق لفهم أعمق للواقع السوداني المعاصر وإعادة التفكير في الأسس التي بنيت عليها الدولة والمجتمع.
السودان النّهري: دراسة في الاجتماع السياسي والهوية
إذن، سادتي، نظرية (الاجتماع السياسي، جدلية الهوية والتاريخ) تُؤسس لطرق موضوعية وغير منحازة لتفسير الظواهر الاجتماعية والثقافية. تستعرض هذه النظرية التفاعلات المتشابكة بين الحرب والسلام، وتفسر ظاهرة تعدد الجيوش والميليشيات القبلية والمناطقية، وكذلك الخطابات المؤسسة ديموغرافيًا. كما تبيّن تأثير التراكمات التاريخية والصدوع الاجتماعية العميقة في وجدان هذه الجماعات.
الحل الجذري للصراع:
التوصية الرئيسية من هذا الخطاب هي أن الحل الجذري لأزمات الصراع في السودان يكمن في معالجة أزمة الهوية. هذه الهوية لم تكن في يوم من الأيام أزمة قبل الاستعمار. لذا، الحل يتطلب تأسيس كيانات جديدة تعبّر عن هويات أصحابها، وتؤسس لعقد اجتماعي يعكس التعدد الثقافي والعرقي بين المجتمعات المختلفة.
نظرية عبد الرحمن عمسيب: الإجابة الجريئة على الأسئلة الملحّة
نظرية دكتور عبد الرحمن عمسيب ليست مجرد طرح للأسئلة الحرجة؛ بل هي تقديم للإجابات الجسورة، إذ طرقت الأبواب المظلمة للثقافة والسياسة في السودان. قدم عمسيب نموذجًا جديدًا لفهم المجتمع السوداني وسبل تجاوز أزماته المتراكمة.
الدول والأوطان: التغيير الدائم والمستمر
الدول – على عكس الأوطان – هي كيانات ديناميكية، تخضع للتغيرات المستمرة وفقًا لنواميس التاريخ والواقع. التعلق العاطفي بأي دولة، خاصةً عندما تكون هذه الدولة خاضعة للتغيرات العميقة، يصبح نوعًا من التفاهة والبلادة. عبر التاريخ، انهارت إمبراطوريات كبرى: من الدولة الأموية، إلى الاتحاد السوفييتي، إلى الإمبراطورية البريطانية، إلى يوغسلافيا. كل هذه الأمبراطوريات اندثرت ولم يبقَ منها سوى الذكريات.
التحولات عبر التاريخ:
أسماء عظيمة مثل الاسكندر الأكبر، والرومان، ونابليون أصبحت أساطير، وإنجازاتهم أصبحت مجرد أثر بعد عين. التعلق بهذه الكيانات التاريخية غير مجدٍ؛ فالتاريخ يعلمنا أن كل شيء قابل للتغيير والتبدل.
تقرير المصير: حق لا يُبتزّ
قرار تقرير المصير هو قرار عظيم، لكنه ليس بالقرار الذي يُتخذ بسهولة. هو خيار يتخذ بناءً على المصالح الكبرى للمجتمعات وتحررها من الأزمات المستمرة التي تعيشها. وقد قدمت العديد من الأمم حول العالم، مثل اسكتلندا وكويبك والباسك، أمثلة على كيفية تحركها نحو تقرير مصيرها رغم التحديات.
مفاهيم تقرير المصير:
تقرير المصير ليس مرتبطًا بمفاهيم العنصرية أو تفتيت الدول. هو حق مكفول بقوانين الأمم المتحدة لكل مجموعة بشرية عانت تاريخيًا من ظلم اجتماعي أو ثقافي أو سياسي أو جغرافي. هذا الحق يجب أن يخضع للنقاش الدقيق حول أسبابه ومبرراته ومآلاته المستقبلية.
تقرير المصير: معايير وشروط
تقرير المصير هو قرار معقد ويجب أن يراعي عدة شروط أساسية:
- توفر الإرادة الاجتماعية والسياسية: يجب أن تكون هناك رغبة حقيقية لدى الشعب في تقرير مصيره.
- وجود قيادة مؤهلة: القيادة يجب أن تمتلك رؤية واضحة وقدرة تحليلية وتأثير اجتماعي.
- حسم قضايا الهوية: يجب تحديد الهوية الثقافية والاجتماعية للمجتمعات الراغبة في تقرير مصيرها.
- رؤية واضحة لشكل الدولة: بناء دولة ذات نظام سياسي واضح ودستور يتضمن دور المجتمع، الثقافة، الدين، والهوية.
- حسم الحدود الجغرافية: يجب أن تكون الحدود الجغرافية واضحة ومتفقًا عليها.
- رؤية اقتصادية شاملة: يجب وجود خطة واضحة للموارد الاقتصادية والبنية التحتية.
عوامل حاسمة:
- الموارد الطبيعية
- القوى البشرية
- شبكات الاتصال والبنية التحتية
تقرير المصير هو قرار تاريخي مصيري يجب أن يخضع لموافقة الشعب عبر صناديق الاقتراع، مع رقابة إقليمية ودولية لضمان النزاهة.
الاستعداد للقرار المصيري: بين الفتح والصبر
كما يقول الشاعر:
“فإما تعرضوا عنا (انفصلنا)، وكان الفتح وانكشف الغطاء، أو فاصبروا لجلاد يوم يعز الله فيه ما يشاء.”
تقرير المصير ليس مجرد فكرة بعيدة عن الواقع، بل هو عملية تتطلب الكثير من الجهد والصبر والإرادة. وقد تكون هذه لحظة فاصلة بين الفتح والتحدي أو الصبر على آلام التغيير.
ختامًا: الانفصال حق لا منّة
حق تقرير المصير ليس مسألة تحكمها المصلحة السياسية فحسب، بل هو حق مكفول للجماعات التي ظلت تعاني من الظروف الاجتماعية والسياسية القاسية. التوجه نحو تقرير المصير، سواء كان في دارفور أو جنوب النيل الأزرق أو جبال النوبة، هو جزء من عملية تاريخية أوسع تهدف إلى تحقيق العدالة والحرية لجميع المجتمعات.
روابط ومصادر:
- عبد الرحمن عمسيب على تويتر: رابط تويتر
- قناة عبد الرحمن عمسيب على يوتيوب: رابط يوتيوب