منذ النصف الثاني من القرن العشرين، أخذت الحركة الإسلامية في السودان موقعًا محوريًا في المشهد السياسي والثقافي في العديد من الدول العربية والإسلامية. وقد انطلقت بأحلام كبيرة ومشاريع فكرية ودعوية تحمل طموحات واسعة، لكنها -في كثير من الحالات- اصطدمت بجدران الواقع المعقّد، وسرعان ما وجدت نفسها أمام تساؤلات كبرى تتعلّق بطبيعة الدولة، والسلطة، والرسالة، والواقع.
هذا المقال محاولة للتأمل النقدي في أحد أبرز الإشكالات التي تعاني منها هذه الحركة: وهم الدولة الرسالية، ورغبة التوسّع باسم الدين، دون التأسيس لبنية داخلية قادرة على الحياة والاستمرار.بدايات التيار الإسلامي الحديث في السودان.
مع نهاية الأربعينات من القرن الماضي، بدأ صعود تيار الإسلام السياسي الحديث في السودان، وأقول (الحديث) عطفاً على التيارات الإسلامية الصوفية التقليدية التي كانت تسود منذ (سنار)، أو الطائفية التي نشأت حول رايات المهدية (الأنصار) أو أحزاب (الختمية)!
اعتمدت الحركة الإسلامية في تأسيس منهجها على وعي الطبقة الطلابية المثقفة -وقتها- التي حاولت تمييز نفسها في وجه المد الشيوعي اليساري والعلماني حينئذٍ. والمفارقة الجديرة بالذكر أن هذا الوعي المبكّر لم يبدأ بأدبٍ عظيم أو قراءات عميقة في الفكر السياسي أو الإسلامي، بل بدؤوا بصفحة واحدة من كتاب حياة محمد لمحمد حسنين هيكل، فجعلوا منه أساساً فكرياً أولياً لفكر الحركة.
الحركة الإسلامية : تدرّج فكري وارتباط أممي
مع تقدّم السنين وتزايد نضج الوعي للإسلاميين، بدأوا بقراءات متقدمة لأفكار محمد عبده، الأفغاني، المودودي، الغزالي، والفكر التنظيمي لحسن البنّا، ثم طه عبد الرحمن، الترابي، بيغوفيتش، العدواني وغيرهم. هذا التدرّج جعل الحركة الإسلامية تعمّق الارتباط بالتيارات الإسلامية في مصر (مدرسة الإخوان المسلمين)، والتي بدأت في العشرينات ثم تجذّرت لاحقاً في وعي العالم الإسلامي، متصلة بتيارات من إندونيسيا إلى الفلبين، ومن الهند وأفغانستان إلى شمال أفريقيا والبلقان وتركيا.
أزمة الفكر السياسي الإسلامي: جدليات مؤجّلة
جدليات التأسيس والانتشار، المحلية والأممية، الدعوة والدولة، هي من القضايا الكبرى في الفكر الإسلامي، والتي لم تُحسم بعد. ومعظم الحركات الإسلامية لم تحدد موقفاً واضحاً منها، فظلّت تدور في فلك التسارع السياسي للأحداث. ومن أبرز أزمات هذا الفكر أنه في جذره ابنٌ للقبيلة والعقل الرعوي، كما أشار الجابري، حيث يتأسس غالباً على مبدأ الولاء الدائم للأمير والملك والشيخ.
لذلك اصطدمت هذه الحركات بتاريخ سلطاني للحكم، وظلّت الشورى مجرد ذكرى في النصوص، بينما الواقع يسير باتجاه شمولي دكتاتوري منذ ما بعد الخلافة الراشدة.
وهم الدولة الرسالية: التوسّع باسم الدعوة
الفكر التوسّعي ليس جديداً في تاريخ الحركات الإسلامية، بل ممتد منذ أن كان يُنظر إلى الدولة باعتبارها وسيلة لنشر الإسلام.
التوسّع الجغرافي والعسكري كان يُفهم بوصفه مهمة رسالية، حتى لو لم يكن ذلك دائماً ضمن نوايا أو وعي الحكام. لكنّ الإمبراطوريات الإسلامية القديمة -رغم توسعها- اهتمت ببناء الدولة داخلياً عبر مؤسسات التعليم، الاقتصاد، الأسواق، الجيوش، والبنى التحتية، مما غاب عن وعي كثير من الحركات الإسلامية المعاصرة.
اقرأ ايضا: العودة إلى سنار : دعوة لتأسيس الحلم من الجذور
الحنين إلى الخلافة وفشل قراءة الحاضر
أحد أكبر هواجس التيارات الإسلامية هو الحنين لنموذج الخلافة والعودة إلى الإمبراطورية الإسلامية، كما كانت قبل سقوط الدولة العثمانية في عشرينيات القرن الماضي. لكن هذا الطموح تجاهل تحولات التاريخ الحديث خلال القرون الثلاثة الأخيرة، التي شهدت نشوء الآيدولوجيات الكبرى (الرأسمالية، الليبرالية، الشيوعية)، وانهيار الإمبراطوريات، وصعود الديمقراطيات، وتفكك الدول العظمى، وبروز النزعات القومية، وخفوت الصراعات الدينية. أمام هذا الواقع، فشلت الحركات الإسلامية في قراءة التحوّلات العميقة في الوعي الإنساني.
المسؤولية الأممية أم الإنكار الداخلي؟
تعتقد الحركات الإسلامية أن لها رسالة كونية، وتُحمّل نفسها مسؤولية نشر الإسلام عالمياً، مهما كلّفها ذلك. لكن هذه الرؤية تنمّ عن ارتباك في فهم الواقع وانفصام عن الضرورات الأولية لبناء الدول. فكادر الحركة بمجرد وصوله للسلطة ينشغل بقضايا الأمة الإسلامية، و”تغيير العالم”، أكثر من انشغاله بالبنية التحتية، الخدمات الأساسية، والتعليم، والصحة، والكهرباء، والمياه.
اقرأ ايضا: من العنصرية إلى الوعي السياسي: قراءة في مفاهيم التعايش والاختلاف
النموذج النبوي: تأمّلٌ غائب
النبي ﷺ، ظلّ في مكة يدعو سرًّا لسنوات، ثم في المدينة أسّس الدولة بتأنٍ وصبر، قبل أن يُؤمر بالجهاد. لكن الحركات الإسلامية تغفل هذه السنة النبوية في بناء الدولة، وتقفز مباشرة إلى مراحل التوسّع والهيمنة، قبل أن تكتمل أبسط مراحل تأسيس البنى المجتمعية.
إن المأزق الحقيقي الذي تواجهه الحركة الإسلامية لا يكمن فقط في مشاريعها أو خطاباتها، بل في رؤيتها الكلية للعالم والدولة والمجتمع. إن غياب الوعي التاريخي، والقراءة العميقة لتحولات البشرية، والانشغال بالمهمة الرسالية العالمية على حساب الواقع الداخلي، أفرز نماذج مشوّهة من الحكم والممارسة السياسية.
ربما آن الأوان لإعادة النظر في هذا المسار، والانطلاق من جديد من سؤال: ما الدولة التي نريدها؟ قبل أن نسأل: أي عالم نطمح لتغييره؟