قراءة في الأسباب العميقة لسقوط مدينة النهود، من البُعد العسكري إلى البنية الاجتماعية المتصدعة
لماذا سقطت مدينة النهود في يد الجنجويد؟
سقوط مدينة النهود بولاية غرب كردفان لم يكن حادثًا عابرًا في مسار الحرب السودانية، بل يمثل نقطة فاصلة تكشف عن طبيعة الصراع الحقيقي في البلاد، وفشل الدولة والمجتمع في فهمه والتعامل معه. السقوط لم يكن عسكريًا بحتًا، بل نتيجة مباشرة لتحالفات اجتماعية خاطئة، وسذاجة سياسية، وسكوت مريب عن الخطر المتنامي وسط المجتمعات المحلية. ما حدث في النهود يعبّر عن نمط تكرّر في مدن كبرى كالعاصمة الخرطوم، ثم ود مدني، فالجزيرة، ثم الدندر وسنجة، والآن النهود. كلها سقطت بنفس الطريقة، لأسباب متشابهة، وبنفس الغفلة.
1. النهود: مدينة احتضنت العدو بجهل أو تجاهل
النهود، المدينة ذات البعد التاريخي والثقل الاجتماعي لقبائل دار حمر، لم تسقط من الخارج، بل تم اختراقها من الداخل. استضافت المدينة أعدادًا كبيرة من النازحين القادمين من مناطق دارفور وجنوب كردفان، دون تحقق، دون مراقبة، دون مساءلة عن الخلفيات القبلية أو السياسية أو العسكرية لهؤلاء. كان العدو يختبئ في صورة نازح، ويدخل المدينة كامرأة تحمل طفلًا، أو شيخ طاعن في السن، ثم يُستكمل المشهد برجال مقاتلين جاهزين للتحرك، بل كانوا مواطنين ويقطنون في تلك المدن لعشرات السنوات، وسمحت لهم المجتمعات المتسامحة (والتي دفعت الثمن الان) بأن يكونوا وسطهم ويعرفوا اسرارهم وضباطهم وتجارهم وغيرهم.. وهم أول ضحاياهم!
الجنجويد لا يدخلون المدن كأفراد، بل كمجتمعات كاملة، في هيئة مدنية أولاً، ثم عسكرية عند الحاجة. وهذا بالضبط ما حدث في النهود.
2. السجون: قنابل موقوتة في قلب المدن
أحد أبرز العوامل التي تساهم في سقوط المدن السودانية هو وجود عناصر الدعم السريع داخل السجون مسبقًا. هؤلاء يشكلون خلايا نائمة، يتم تحريرها في اللحظة المناسبة. حدث هذا في الخرطوم، حيث فُتحت السجون المركزية، وخرج منها آلاف الجنجويد الذين تحولوا إلى عناصر قتال ونهب. وتكرر المشهد في ود مدني، ثم سنجة والدندر، والآن في النهود.
في بعض الولايات، مثل نهر النيل والشمالية، لجأ الجنجويد إلى تسليم أنفسهم للسجون تحت ذريعة “طلب الحماية”، لكن الهدف الحقيقي كان التمركز داخل المدن كقوة نائمة. في النهود، تم تحرير السجن في بداية الهجوم، ليتم تسليح العناصر المحتجزة، والانقضاض على المدينة من الداخل.
3. الحرب ليست سياسية …بل هي حرب مجتمعات الجنجويد العطاوة
الخطأ الأكبر الذي يرتكبه كثير من السياسيين والمثقفين هو حصر مفهوم “الجنجويد” في إطار ميليشيا أو فصيل عسكري. الجنجويد، في الواقع، يمثلون تكوينًا اجتماعيًا قبليًا معقدًا، تسانده النظارات والمجالس الأهلية وتدعمه القبائل بتعبئة ممنهجة.
كل فرد في قوات الدعم السريع هو ابن قبيلة، وجندي في مشروع اجتماعي مسلح، يخضع لقرارات قيادات أهلية، ويتحرك بأمر ناظر قبيلة، ويحمل فتوى قبلية تبيح له القتل والغزو. ولذلك، لا يمكن هزيمة هذا العدو بالسلاح وحده، بل يجب حصار مجتمعه، وتجفيف حواضنه، ومجابهة سردياته القبلية بالحقيقة والواقع.
4. الدولة عاجزة لأنها ترفض تعريف الحرب تعريفًا صحيحًا
السبب الرئيسي في تكرار سقوط المدن هو رفض الدولة تسمية الأشياء بأسمائها، ورفضها الاعتراف بالحرب كحرب مجتمعية وقبلية شاملة. الجنجويد يهاجمون المدنيين لأنهم يعلمون أن الحواضن التي ينطلقون منها آمنة، وأنهم لن يُلاحقوا، وأن الدولة لا تملك اليد الصلبة لردعهم.
لو كانت هناك إرادة حقيقية لردعهم، لتمت معاقبة المجتمعات التي استضافت مقاتليهم، وتم جعل كلفة غزو الجزيرة وسنجة والدندر والنهود باهظة جدًا عليهم، تمنع تكرارها في مناطق أخرى.
اقرأ ايضا: خروج حركات دارفور المسلحة قضية رأي عام : جريمة الدبة !
5. من هو العدو الحقيقي؟
منذ دخول الاستعمار البريطاني، لم تغزُ مجتمعات وسط وشمال السودان ديار العطاوة ولا مرة. ظلّت العلاقة في إطار النزاعات القبلية المحدودة، والتي تنتهي بالجودية والديات. بالمقابل، تمتعت مجتمعات عرب دارفور بحرية كاملة في التنقل والتجارة والعمل، بل حصلت على ولايات خاصة بها، وامتيازات كبيرة من الدولة، التي سلّحتهم وساعدتهم.
لكن منذ اندلاع الحرب، أعلنت هذه المجتمعات دعمها الواضح لحميدتي ومشروعه، وأرسلت أبناءها في قوافل متواصلة للقتال تحت رايات الدعم السريع. المشروع لم يكن عسكريًا فقط، بل كان مجتمعيًا وقبليًا بامتياز، يهدف إلى غزو الدولة وتدمير نسيجها.
6. هذا أوان المجتمعات، لا الأحزاب
لقد فشلت كل النخب السياسية – إسلامية، يسارية، ليبرالية، سلفية، قومية – في التعامل مع الخطر الداهم. الخطاب السياسي الحالي غير كافٍ، لأن المعركة خرجت من إطار المؤسسات والدساتير، وانتقلت إلى المجتمعات والهويات. المعركة الآن هي معركة نجاة مجتمعات بأكملها.
لقد آن الأوان لقيام كيان جديد، عقد اجتماعي يحمي الدماء والكرامة، ويعيد الاعتبار لهوية المركز التي طالما قُمعت. لحظة سنار التاريخية لم تكن استثناءً، بل نموذجًا يمكن العودة إليه، لبناء دولة جديدة تقوم على التكافؤ والعدالة.
7. الخلاصة: النهود لم تسقط وحدها، بل سقط معها وعي الدولة
النهود لم تسقط بسبب ضعف عسكري فقط، بل بسبب فشل سياسي ومجتمعي شامل في فهم الحرب وإدارتها. العدو ليس مجرد فصيل مسلح، بل مجتمع يتحرك بأطفاله ونسائه وابنائه .. مجتمع كامل يقاتل على اساس العقيدة القبلية ضد مجتمعات اخرى بعينها، ضد مجتمعات تسمى بالجلابة عند جميع مجتمعات الغرب المعادية للوسط والشمال والشرق والتي تمردت منذ عشرات السنوات. إن لم نواجه هذا الواقع بشجاعة، فسيسقط المزيد من المدن… بنفس الطريقة… وبنفس الغفلة.
اقرأ ايضا: العودة إلى سنار : دعوة لتأسيس الحلم من الجذور
ما رأيك في هذا التقرير؟