حرب الخامس عشر من أبريل أيقظت فيني تساؤلات كثيرة جدًا..
منها عن أصلي أنا كأحد أبناء النيل الأبيض، وأصل هذه المجتمعات التي تقاتلنا الآن من عرب دارفور، وسابقًا أيضًا من زرقة دارفور. وكان التساؤل بسيطًا: ماذا يريد هؤلاء؟
فبدأت البحث خلف المفردات والخطابات، وحاولت القراءة لمفكريهم، وخصوصًا الجيل الثاني من الكُتّاب، والذين يُعتبرون معاصرين وأقرب للتنظير المرحلي لمتخذي القرار الدارفوريين المؤمنين بفكرة دولة كوش باعتبارها دولة الزنوج.
فكان التساؤل هذه المرة هو:
لماذا يسعى جبريل إبراهيم ومناوي، وهم زنوج (كما يصفهم الكاتب عطرون)، إلى الاستيطان وتوطين أبناء جلدتهم وعرقيتهم في الجزيرة، بل وتسليحهم؟
بل والخوض في التعدين في شمال السودان ونهر النيل وشرق السودان، وعدم الاكتراث بحصار الفاشر وإبادة “الزنوج الآخرين” (كما يصفهم عطرون) في كل مناطق دارفور، ومؤخرًا معسكر زمزم؟ لماذا يتعاملون وكأن دارفور لا تعنيهم بشكل مباشر؟ ولماذا يتم تفويج الآلاف من أبناء دارفور إلى مناطق الشمال ومدنه كالدبة، التي استقبلت إلى الآن ما لا يقل عن 15 ألف شخص من ولايات دارفور، وبقية مناطق “الجلابة” (كما يصفها عطرون) التي استقبلت الآلاف ولا تزال إلى الآن؟
شيء غريب ومحير للغاية!
لماذا لا يقاتلون ويدافعون عن مناطقهم التي انتزعها عرب دارفور (الجنجويد) ؟ مثلما حرر أبناء الجزيرة وسنار مناطقهم؟
وكانت الإجابة في كتاباتهم.. هناك مشروع لغزو واستيطان الشمال وكل مناطق الجلابة باعتبارها “أرض ميعاد” للزنوج والأفارقة. والذي يروج له الكاتب عبدالمنعم عطرون.
من هو عبدالمنعم سليمان عطرون؟
عبدالمنعم سليمان عطرون، كاتب من إقليم دارفور، يقدّم نفسه صراحة كـ”زنجي” ويستلهم في جميع كتاباته ما يمكن وصفه بـ”الرؤية الزنجية الخالصة” التي تصادم كل ما يمتّ للعروبة أو الهوية الإسلامية بصلة. لا تحتوي مقالاته، دون استثناء، على أي مساحة نقدية متوازنة، بل يغلب عليها الطابع التحريضي والعنصري، ويهدف للترويج لامبراطورية كوشية زنجية مزعومة.
وهو من الكتّاب الذين يمارسون “الكتابة بوصفها فعل انتقام”، إذ ينطلق من سردية المظلومية التاريخية لدارفور وشعوب أفريقيا جنوب الصحراء وهو هنا لا يهدف لتبني مشروع انفصالي بل يهدف لمشروع استعماري توسعي يسعى لتفكيك السودان الحالي، لا عبر مطالب مشروعة بالحقوق، بل عبر محو الآخر (الجلابي) وتغيير تركيبته السكانية عمداً.
سنقرأ معًا هذا النص:
اقتباس
“نحو إمبراطورية كوشية لا دويلات
كنا قد ناقشنا مع سجالة أفريكانيين سودانيين ومن الدول المجاورة للسودان؛ من إرتيريا وجنوب السودان؛ وأفريقيا الوسطى وتشاد والنيجر؛ واتفقنا على أن هذه الدولة يمكن أن تكون جزءًا من السودان مستقبلاً؛ لنبني حضارة موحدة؛ فهذه الدولة فشلت أو هي في طريق فشلها كدولة بالمعيار الواقعي، وأن تكون قانونيًا هي دول، وذلك منذ خروج مستعمرها الأوروبي.
طبعًا السودان دولة فاشلة بلا شك، إلا أن فشلها ليس بمستوى أو درجة فشل هذه الدويلات الإفريقية.”
الملاحظ هنا أن عطرون يطلق كلمة سودانيين على مواطنين من دول أخرى كإرتيريا وجنوب السودان وتشاد والنيجر! وهنا هو يعتبر أن كل زنجي هو سوداني بشكل تلقائي، وأن الزنجية والأفريقانية توحده مع أبناء تلك الدول. بل والسودانوية نفسها هي تخصهم، وتعني بمعناها الحرفي “السود، أصحاب البشرة السوداء أو الزنوج”، وهنا ينفي أحقية كل العرب او الجلابة باعتبارهم اصيلين في هذا الوطن.. بل يعتبرهم وافدين وطارئين عليه.
وهنا هو يقر بفشل دولة السودان الحالية (باعتبارها دولة جلابة)، ويعدهم أن تكون دولهم ضمن دولة السودان مستقبلاً!
ولكن كيف؟
اقرأ ايضا: تمردات مدعومة خارجياً: من نمور التاميل إلى حزب العمال الكردستاني
اقتباس
“لاحقًا في هذا الاتحاد يمكن النقاش حول انضمام إقليم النوبة في صعيد مصر وإقليم فزان الليبي إلى هذه الإمبراطورية الإفريقية التي تعيد مجد كوش وعظمة أباطرتها في وجه جديد تبني للسلام والعلم.
وقد نتفق مع إثيوبيا لاتحاد أكبر في الوصول إلى الصومال وجيبوتي شرقًا، والسيطرة على القرن الإفريقي وملم البحر الأحمر والمحيط الهندي.
كذلك قد ننجح في الوصول غربًا إلى المحيط الأطلسي بالاتحاد مع مالي وموريتانيا؛ علمًا أن الدويلات الإفريقية الأحد عشر في غرب إفريقيا والناطقة غالبها بالفرنسية قد تتوحد في دولة واحدة.”
هنا يوضح نواياه بشكل واضح.
هو يتحدث عن أن تكون هناك امبراطورية كوشية كمركز استعماري زنجي عنصري، يسعى لضم أقاليم ومناطق أخرى، جزء من مصر وجزء من ليبيا، ويتم عمل اتحاد بين دول غرب إفريقيا الأحد عشر كلها!
الترويج لاتحاد دول الزنوج الكبرى – الهند نموذجا
اقتباس
“حلم عودة كوش في شكل إمبراطورية إفريقية معاصرة قوية، منطلقًا من السودان الحالي؛ بكونه منبت الحضارة الإفريقية، أمر سيعيد للأمم الزنجية إنسانيتها وكرامتها والثقة في ذاتها؛ بعد قرون من الضياع، مرورًا بقرون العبودية وتجارة الرقيق؛ ثم حقب الاستعمار الآسيوي والأوروبي، ثم شيوع النظرة العنصرية على السود في العالم.
وقد نسهم في الحضارة الإنسانية القائمة اليوم بإسهامات مذهلة جديدة تقدم للإنسانية.
يستفزني مساحة الاتحاد الروسي؛ ودول مثل الصين؛ والهند؛ والبرازيل؛ وأنا مهموم بضرورة توحيد إفريقيا في دولة أو في خمس أو ست دول؛ برؤية الشيخ أنتا ديوب؛ هو حراك لا حرب ولا معاداة بل اتحادات طوعية من أجل سلام وأمن عالمي.
الهند نموذج جيد لنا في السودان؛ فبالرغم من تعدد اللغات والثقافات، إلا أن الجميع هم أمم زنجية، ويمكنها خلق ديمقراطية حقيقية وتقدم اقتصادي كما الهند؛ وبهذه الوضعية يتعزز قوتنا اقتصاديًا ونتقدم علميًا وعسكريًا ونرتفع من قدرنا الإنساني.”
إذًا، يبني عطرون مشروع دولته على أنقاض دولة السودان ومناطق الجلابة، “المواطنين الأصليين لهذه المناطق”.
هو لا يعترف بأي أحقية لأي مكونات عربية أو جلابة في هذه المناطق، بل يتجاوز هذه الحقيقة كمسلم به، ويناقش أبعد من ذلك بطبيعة دولة أو اتحاد دول الزنوج، الذي جعل الهند نموذجًا له، كدولة تتعدد فيها اللغات والثقافات، إلا أن الجميع أمم زنجية!
ما هذا التناقض العجيب؟ أم هو ليس تناقض؟
هذا ليس تناقض.. هو يعني ويقصد أن الأساس هو اللون الأسود الزنجي لجميع المواطنين سواء في السودان أو الدول الاتحادية للزنوج (حسب زعمه)، والتنوع يأتي لاحقًا كتنوّع زنجي وثقافي لهذا المكون، من اختلاف للغات والثقافات والاعراق التي تتفق في زنجيتها .
الكاتب سرد المجتمعات العرقية في دارفور باحتفاء واضح، موضحًا التنوع العرقي الزنجي الكبير الذي سبق وذكره. فقد قسم هذه المجتمعات إلى مجموعات دارفور الأصلية مثل الفور والقمر والمساليت والدواجو، بالإضافة إلى مجموعات جنوبية غير مسلمة كالرانقا والبنقا والقلا والسلا، وكذلك مجموعات غرب الفاشر التي تضم الكنين والتكرور ومجموعات أخرى من أصول متنوعة مثل فزانية من ليبيا وأولاد الريف من مصر. هذا التقسيم يبرز التنوع العميق والتداخل الثقافي الكبير في الإقليم، والذي يريد الكاتب ان يصنع منهم مجتمعا مؤسسا لفكرة امبراطورية كوش.
اقرأ ايضا: الدولة الجديدة : بين انتماء العقيدة والإنتماء الثقافي والتاريخ
انفصال دارفور ليس حلاً، فالمشكلة هي دولة الجلابة !
وأنا أقرأ هذا النص جال في رأسي أنه: ينفصلوا طالما ما ممكن نعيش معاهم!!
ليرد هو في نفس النص:
اقتباس
“إمكانيات صعوبات التفكير في الاستقلال
لا أعتقد أن استقلال سكان إقليم دارفور حل للسودان الحالي بمشاكله؛ فاستقلال الأمم الزنجية في الجنوب من استعمار الجلابي، بالرغم من أنهم غير مشاركين في سكنهم بمجموعات تعتبر نفسها عربية كما الحال في دارفور، لم يستقر؛ لأن أسباب عدم الاستقرار لا يكمن حلها في الانفصالات أو التقوقع إلى وحدات صغيرة؛ ولن تحل الأزمة بين النوير والدينكا بإعلان كل منهما دولة في حاكورتها؛ بل تزيد الأمر تعقيدًا، إذ لابد من النظر إلى الأسباب الحقيقية وراء الحروبات وعدم الاستقرار وهي دولة الجلابي.”
يقول الحل ليس انفصال الجنوب أو الغرب!!
بل انفصالهم يزيدهم تعقيدًا، وأن المشكلة الحقيقية وراء الحروبات هي دولة الجلابي!
قمة العنصرية والكراهية!
ماذا يريدون بالضبط؟
اقتباس
“الأزمة إذًا هي دولة الجلابي وعقلية مثقفيها المخاصمة للديمقراطية وحقوق الإنسان من جهة، ونكرانها وعداوتها غير المبررة للذات الإفريقية من جهة أخرى، وادعاء هوية لا تناسبها؛ بل والسعي لفرض هذه الهوية على الكل بالسودان.”
اقتباس
“لكن حقيقة لا تعرف بشكل دقيق في تقديري حدود لإقليم دارفور؛ في وقت لم يكن هناك سلطانات على النيل أو الجنوب أقوى منها؛ لكن من المؤكد أنها كانت على اتصال بمصر عبر درب الأربعين؛ والمنطقة لم تكن تتبع للشمالية بالتأكيد؛ كما لسلطنة الفور والقولا سلطة حتى منطقة البحيرات الجنوبية بعد بلدة راجا اليوم.
وفاقت سلطة سلطان الفاشر كردفان إلى النيل وحتى شمال أم درمان، وخضعت شندي والمتمة للحكم سلطنة الفور حتى نهر عطبرة؛ وأم درمان الحالية كلها غرب السودان.”
هنا فجأة تذكرت خريطة مناوي التي رفعها وشكلت موجة غضب عارم في الأوساط السودانية، خصوصًا الجلابة، والذين يقاسون الأمرّين.. الجنجويد والحركات المسلحة التي وصلت إلى تسليح كبير وتمكين ونهب بالغ للثروات الشمالية (الجلابة).
إذن مناوي لم يشهر تلك الخريطة من فراغ، بل هناك مشروع واضح تم التنظير له قبل عشرات السنوات.

ونكمل معًا ليتضح لنا الجانب الآخر من المشروع وهو جبريل إبراهيم.
اقتباس
“وفي التحالف التاريخي بين قبائل الغرب أثناء ثورة المهدي، وهو من الشمال، خلقت ارتباط بين شعب البجا في الشرق وأهل دارفور بحيث خلقت ثقة عميقة أكبر مما هو بين الشمال الجلابي وأي من تلك الطرفين؛ فإذا يكون هناك ثمة عجز للشمال الجلابي من خلق علاقات مستقبلًا مع الغرب، فإن الغرب والشرق على استعداد للتوحد؛ وهذا ما يعني أن السودان المتبقي للشمال النيلي لن يكون سوى شريط نيلي ضيق، قد يبادر أهلها لأن يكونوا بوابين لمصر بعد الانضمام إليها، وهو تفكير لابد أنه غبي.
للصديق إدريس أزرق نظرية حول مستقبل السودان؛ اسميناها في مركز السودان بالنموذج الأزرق، ضمّناها في دراسة باسم “أربعة مستقبلات سودانية” صدرت سابقًا؛ ناقشت مركز الدراسات إمكانية ثلاث دول؛ وذلك لأنه لا يمكن أن تستقل إقليم دارفور في معزل عن كردفان؛ ولا يمكن أن يستقل الغرب بعيدًا عن سكان الفلاحين الزنوج الغرابة سكان الكنابو في الإقليم الأوسط، والفلاحيين الزنج في القضارف والرهد وسنار وحلفا.”
اقرأ ايضا: العودة إلى سنار : دعوة لتأسيس الحلم من الجذور
اذهب انت للشمال .. وانا سأذهب للجزيرة !
في هذه الجملة الأخيرة.. يتضح كل شيء..
إذن وزع “الزنوج” الأدوار بينهم للقضاء على الجلابة مرة واحدة وللأبد..
- جانب يسيطر على شمال السودان ونهر النيل، وينهب في ثرواته، ويحتل أراضيه، ويروّج لخريطته المتمددة إلى حدود مصر.
- وجانب آخر يسيطر على أراضي وسط السودان والجزيرة وتوطين الكنابي، لجعل انفصال الوسط والشمال والشرق مستحيلاً عليهم، بل والتمرد عليه إذا أصبح واقعًا.
- جانب سياسي ، يسيطر على المراكز القيادية السياسية والسيادية ويعمل عبر ادوات السلطة والدولة على افقار مجتمعات الجلابة وافقارهم وتحقيق مشروعهم المزعوم.
- وإقصاء هذا الوسط (باسم الشريط النيلي) وحصره فيه للتمكن منه بشكل كامل لاحقًا، وترويج التحالف والتمازج مع سكان شرق السودان كحلفاء لمشروعهم.
يتضح من هذا المقال الخطير نوايا أبناء الهامش الزنوج
حيث ان هذه المجتمعات ترى انه يمكنها حتى التضحية باراضيها في دارفور مقابل ان تحتل اراضي الجلابة واقامة دولة الزنوج (المزعومة) على موطن الجلابة ، ووضح رغبتهم الاستعمارية والعنصرية والإقصائية للعرب الجلابة، سكان شمال ووسط وشرق السودان، ما يدعو لليقظة والنهضة والتحرك والاتحاد لتفويت الفرصة على هؤلاء العنصريين، وإقامة دولة النهر والبحر التي تعتبر المشروع الأخير والمنقذ لمجتمعات الجلابة من الغزاة الزنوج وعرب دارفور الجنجويد، فمشروع البحر والنهر هو مقابل لمشاريع كوش ودولة الزنوج الكبرى ودولة العطاوة الكبرى وغيرها من مشاريع الاستيطان العنصرية القادمة من الهامش .
وانت ما رأيك؟
المقال: نحو امبراطورية كوشية لا دويلات
تعليقان
مقال جميل
يجب الإسراع في الانفصال