عمليًا، بعد التهديدات الأخيرة للحركات المسلحة في دارفور، من الواضح أنها ستفكر ألف مرة قبل أن تتجرأ على خطوة حمقاء كإعلان التمرد على الجيش والدولة. نحن عمليًا نقترب من نهاية اتفاق جوبا، أو بالأصح، نشهد بداية قص أجنحة الحركات المسلحة الانتهازية التي تسللت لمؤسسات الدولة المدنية والعسكرية تحت غطاء السلام. قد يُلغى الاتفاق نهائيًا ويُستبدل باتفاق جديد أكثر اتساقًا مع الواقع، أو يتم الإبقاء عليه صوريًا، مع حصر هذه الحركات في وزارات غير سيادية، فقط كوسيلة لاحتواء الانفجار لا أكثر.
لكن إن تمادت هذه الحركات وأعلنت التمرد، فلابد من الفهم العميق لطبيعتها. هذه الحركات ليست كتلة واحدة كالجانجويد. الجنجويد يتمتعون بقدر من التماسك الداخلي، وتحكمهم قيادة مركزية يقبلون بها، ويجمعهم خطاب قبلي وسياسي موحّد تحت مظلة الأسرة الدموية لحميدتي. أما الحركات المسلحة، فتمثل خليطًا هشًا من الزغاوة والفور والمساليت والتاما والبرتي والفلاتة والهوسا، دون رابطة اجتماعية أو عرقية مشتركة. لا يجمعهم خطاب دموي واحد، ولا ولاء مركزي يمكن البناء عليه، وكل فصيل يعمل لأجندته القبلية، بل الشخصية.
ولذلك، أول رصاصة تطلقها هذه الحركات في وجه الجيش، تعني انفجارًا داخليًا لن يُطفأ بسهولة. سقوط الفاشر، كرنوي، وادي هور، ضياع الجنينة والطينة والمالحة وزالنجة، لن يكون مستبعدًا. لكن الأسوأ، أن هذه الحركات ستجد نفسها في قلب نار مشتعلة من الشرق والغرب والشمال. ستواجه الجيوش الرسمية، وميليشيات المجتمعات المحلية، وعرب تشاد والنيجر ومالي. أما قواتهم الموجودة في الشمالية، نهر النيل، الجزيرة، القضارف وسنار، والمقدرة بـ600–800 عربة، فلن يكون أمامها إلا خياران: القتال الكامل من أجل السيطرة، أو الإبادة الكاملة.
الخطأ القاتل أن هذه الحركات لم تدرك حتى الآن أنها بخطابها العدائي وابتزازها السياسي خلقت لها عداوة جذرية مع شعوب وسط وشمال السودان، التي سئمت من تهديدها المستمر ومطالبتها بنصيب غير مستحق من السلطة، بينما هي نفسها عاجزة عن تحرير أي مدينة من الجنجويد أو استعادة أراضيها.
اقرأ ايضا: بيع مليون فدان من نهر النيل لمصر: كيف تُدار موارد السودان في غياب التشريع والمحاسبة؟
خروقات الحركات المسلحة لاتفاق جوبا
اتفاق جوبا لم يكن شيكًا على بياض للحركات المسلحة. ففي البند 2.2.2 من البرتوكول الأمني، ورد نص صريح يقول:
“تلتزم الحركات المسلحة الموقعة على الاتفاق بعدم القيام بأي عمليات تجنيد جديدة بعد توقيع الاتفاق، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ويعتبر أي خرق لهذا الالتزام انتهاكاً صريحاً لبنود وقف إطلاق النار الدائم.”
وفي فقرة لاحقة، ورد:
“تُجمد كافة الأنشطة العسكرية للحركات، بما في ذلك التحركات، والتجنيد، والتدريب، وشراء المعدات، فور التوقيع على الاتفاق.”
لكن الواقع أن هذه الحركات واصلت تجنيد الأفراد، وتعزيز وجودها العسكري في مواقع خارج مناطقها، مستغلة حالة الهشاشة الوطنية لتكريس وجود مليشيوي لا يعكس أي التزام بالسلام. هذا التجاوز لا يُعد فقط خرقًا للنصوص، بل تهديدًا فعليًا للاستقرار الوطني، ويمنح الدولة الشرعية الكاملة لإعادة النظر في الاتفاق أو إنهائه كليًا.
حركات بلا مشروع: الغنيمة بدل التحرير
اتفاق جوبا في مادته (1-6) نص على:
“تلتزم الحركات الموقعة بالعمل المشترك من أجل تنفيذ الاتفاق بروح من التعاون والمسؤولية التاريخية تجاه الشعب السوداني.”
لكن هذه الحركات اختارت روح الغنيمة على روح المسؤولية، وروح الابتزاز على روح البناء. فحتى مجتمعات “الزرقة” التي تدعي تمثيلها، تعاني من انقسامات تاريخية، ولا يجمعها مشروع اجتماعي أو سياسي واضح. عكس مليشيا الجنجويد التي رغم عنصريتها وخطورتها، تملك خطابًا متماسكًا، وقيادة موحّدة.
فأي تمرد جديد من هذه الحركات لن يفتح باب التحرير كما توهم قياداتها، بل سيفتح أبواب جهنم. الدولة، بكل ما تملك من أجهزة، ومعها غالبية المجتمعات السودانية، لن تتردد في سحق التمرد. الدعم الذي كانت تحظى به هذه الحركات من القذافي أو ديبي أو بعض نخب الجنوب قد انتهى. لم يتبق لها إلا العزلة، والانكشاف، والانتحار السياسي والعسكري.
ما العمل؟
واضح أن الابتزاز وصل لمحطته الأخيرة. لم يعد مقبولاً أن تستمر هذه الحركات في تقويض استقرار الدولة مقابل وعود بالتمثيل أو مكاسب سلطوية. الحل الوحيد المتبقي هو أن تدخل هذه الحركات في تسوية جديدة مع الجيش، تتخلى فيها عن وهم المركز، وتعود إلى مناطقها لتحكمها ذاتيًا إن استطاعت، وتواجه الجنجويد هناك لا في الخرطوم. غير ذلك، فكل “فرفرة” ستُواجه برد عنيف وشامل، ولن يكون هناك من يتوسط أو يفاوض. والموت عند هذا الشعب أصبح مألوفًا كالنوم، فلم يعد يخشى شيئًا.
اقرأ ايضا: العشوائيات في السودان: مهددٌ أمني واجتماعي يجب اقتلاعه من الجذور
مراجع : اتفاق جوبا للسلام
تعليق واحد
ان زمن الابتزاز السياسي لهذه الحركات قد ولى، وان الدولة والمجتمع السوداني لن يقبلا باستمرار هذا الوضع الذي يهدد استقرار البلاد.
ولابد ان يكون الردشجاعا ومباشرا، ويؤكد على أن أي محاولة للتمرد ستواجه بوضع حد للفوضى في السودان.
شكرا للكاتب على هذا المقال