في عالم السياسة الدولية، لا يُلغى اجتماع كالذي دعت إليه الرباعية (الولايات المتحدة، بريطانيا، السعودية، الإمارات) اعتباطاً. فحين يتعلق الأمر بالسودان، يصبح الصمت أبلغ من التصريحات، والتأجيل أكثر دلالة من الانعقاد. رغم شُح المعلومات المؤكدة، إلا أن سياق الأحداث وتراكم المؤشرات يوحي بأن إلغاء اجتماع الرباعية لا يعني نهاية الاهتمام، بل إعادة ترتيب الأولويات، خصوصاً مع التغيرات الجذرية التي يشهدها الإقليم السوداني – وتحديداً دارفور – من حيث السيطرة، والفاعلين الجدد، وإعادة ترسيم الجغرافيا السياسية.
واقعياً، لم تعد القضية السودانية تحتل موقعاً بارزاً في طاولة القرارات الدولية، مقارنة بملفات مثل الحرب الروسية الأوكرانية، الأزمة الإيرانية الإسرائيلية، غزة، أو حتى التنافس الصيني الأمريكي. فدولة متهالكة سياسياً، تحكمها ميليشيات وقوى محلية متناحرة، لا تُغري الفاعلين الدوليين بالاستثمار فيها، ما لم تُحسم معارك الأرض أولاً. لذا، فإن إلغاء الرباعية لا يعود فقط إلى انشغال العالم، بل إلى قناعة بأن التفاوض السياسي يجب أن يبنى على وقائع ميدانية حاسمة، وهو ما لم يتحقق بعد في السودان، خصوصاً في دارفور وغرب كردفان.
دارفور أولاً: معركة الجغرافيا وتشكيل الدولة الجديدة
إحدى النقاط الجوهرية التي تدفع إلى تأجيل الرباعية، هي ما تشهده دارفور من تحوّلات تمهّد لتكوين كيان سياسي جديد مستقل، مدعوم بواقع ميداني تقوده قوات الدعم السريع وتحالفاتها مع بعض قبائل الزغاوة والفور. معركة الفاشر، ليست مجرد صراع عسكري، بل هي مفصل تفاوضي أساسي، فمن يحسمها يضع قدمه على طاولة الحل الدولي. الرباعية، إذن، تنتظر تبلور حدود الكيان الجديد على الأرض، ومعرفة شكل الخارطة السياسية التي يمكن الاعتراف بها لاحقاً ضمن تسوية إقليمية أوسع.
ملفات تؤجّل الحسم
من أبرز الملفات التي تتريث الرباعية في التعامل معها:
الموانئ والبحر الأحمر: السعي لمنع التمدد الروسي والصيني والتركي على الساحل السوداني الشمالي، مما يعزز أهمية فصل دارفور ككيان بعيد عن التنافس على البوابة الشرقية للسودان. الحدود الجديدة: ما يُرسم الآن في جبال النوبة وجنوب كردفان وغرب دارفور هو بداية إعادة ترسيم الدولة السودانية وفق خطوط إثنية وسياسية جديدة. الإسلام السياسي ومكافحة الإرهاب: الغرب والخليج لا يزالان يتحسسان من عودة التيارات الإسلامية للسودان، ودارفور الجديدة تمثل نموذجاً مفضلاً لقوى دولية تسعى لإنهاء هذه التهديدات.
توافق إقليمي صامت
حتى الآن، لا تزال مشاورات الرباعية مستمرة خلف الكواليس مع دول الجوار، مثل مصر، تشاد، جنوب السودان، وليبيا. هذه الدول تدرك أن قيام كيان سياسي بدارفور، على غرار النموذج الكردي أو الليبي، هو مسألة وقت، لكنه يحتاج إلى ضمانات أمنية، واقتصادية، وإقليمية قبل الاعتراف الرسمي.
الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي سيرفضان الاعتراف بدارفور الجديدة مؤقتاً، في إطار مناورة تكتيكية للضغط على القيادة الجديدة في نيالا لقبول الشروط الدولية، خصوصاً ما يتصل بحقوق الإنسان، ومكافحة الهجرة غير الشرعية، وبقاء القوات السودانية ضمن المحور الخليجي في حرب اليمن، والتطبيع مع إسرائيل.
مشروع فصل دارفور… في مراحله الأخيرة
من الواضح أن مشروع فصل دارفور لم يعد مجرد مخاوف نظرية، بل بات واقعاً قيد التشكل، تقوده تطورات عسكرية، وتُدعمه ترتيبات إقليمية ودولية. القوى الكبرى تنتظر “اللحظة المناسبة” لإضفاء الشرعية عليه، وتستثمر في قوى محلية ترى فيها بديلاً قابلاً للتطويع والتفاوض، بعيداً عن إرث الخرطوم الثقيل.
إلغاء اجتماع الرباعية ليس تراجعاً عن الملف السوداني، بل تأكيد على أن قرارات الحسم في طريقها للتنفيذ، ولكن بعد ترتيب ميدان المعركة، وتحديد اللاعب الأساسي في الإقليم الجديد. وخلال الشهرين القادمين، ستتضح معالم دارفور الجديدة، التي ستكون أول كيان سوداني يعترف به المجتمع الدولي خارج العباءة المركزية للخرطوم. وإلى ذلك الحين، فلنراقب مسار الراجمات والمفاوضات معاً… فالحدود تُرسم بالنار قبل الحبر.
اقرا ايضا: سد النهضة وأمن السودان الغذائي: حين تتحول المياه إلى سلاح صامت