في خضمّ التداخل بين الجغرافيا والهوية، تبرز القارة الإفريقية كمثالٍ حيّ على تحوّل الرقعة الأرضية إلى كيان هويّاتي مشحون بالدلالات الثقافية والعرقية والتاريخية. لم تعد “أفريقيا” مجرّد اسمٍ لقارة شاسعة، بل غدت في الوعي الجمعي رمزاً لذات اجتماعية مخصوصة كالهوية الزنجية، غالباً ما تُختزل في العرق الزنجي وتُعبّر عن تاريخ طويل من النضال، والاستعمار، والتحرّر. هذا التحوّل من الجغرافيا إلى الهوية، ومن التنوع العرقي إلى احتكار تمثيلي لأحد مكوّناته، يفتح الباب لتفكيك المفاهيم المرتبطة بـ”الأفريقانية” و”الزنوجية” ويثير أسئلة جوهرية حول العلاقة بين الأرض والعرق، والانتماء والتمثيل، وما إذا كانت الهوية تُمنح أم تُنتَزع في خضمّ التاريخ والصراع.
مفهوم إفريقيا كقارة
يعرّف مصطلح (افريقيا) بأنه اسم لقارة، رقعة جغرافية هائلة تمتد على 30 مليون كم2، بها قرابة 1.4 مليار نسمة يشكلون نسبة 18% من مجموع سكان العالم موزعين على 54 دولة. القارة بها أكثر من 40 مجموعة عرقية كبيرة مختلفة تندرج تحت كل منها مئات المجموعات السكانية والقبائل، يتحدثون أكثر من 2000 لغة مختلفة منها لغات أصيلة للسكان المحليين وبعضها لغات أجنبية تركها المستعمر.
نشأة الهوية الأفريقية مقابل الزنجية
برزت الهوية (الافريقية) بعد حقبة الاستعمار، وظهرت في افريقيا السوداء جنوب الصحراء، حيث بدأت تتشكل عبر العقود تيارات اجتماعية وسياسية تدعو للتحرر من قيود المستعمر الغربي الأوروبي، ورفض الاسترقاق والاستعباد وذلك منذ أواخر القرن التاسع عشر.
لذلك تشكلت حركة (الأفريقانية) Africanism، وهي حركة سياسية اجتماعية واسعة اتخذت نسق النضال ضد المستعمر والدعوة إلى التحرر من التسلّط الأجنبي على شعوب القارة ومواردها وطرد القوى الكولنيالية وتنقية القارة من الوجود الاستعماري.
محدودية انتشار الأفريقانية
لم يفلح مفهوم الأفريقانية في التمدد في دول ومجتمعات شمال افريقيا (مصر والمغرب العربي) أثناء فترات الاستعمار المختلفة، حيث اتخذت كيانات شمال افريقيا مسارات أخرى للتعبير عن ذواتها الرافضة للاستعمار والنضال السياسي والمسلّح للتحرر منه.
اتخذت الأنساق التحررية دوافع دينية، وقومية، ووطنية مختلفة المنطلقات والشعارات.
الزنجية: هوية أكثر تطرفاً
مع تجذّر الوعي السياسي والاجتماعي في مجتمعات افريقيا السوداء وإدراكهم للتحديات والقضايا المصيرية التي تهدد مصيرهم، نشأت حركة أكثر خصوصية وأكثر تطرفاً وهي (الزنوجية / الزنوجة) Negritude.
وهي تيار ثقافي اجتماعي ظلّ ينادي بحقوق الأفارقة السود (الزنوج) وقضاياهم الانسانية والعمل على نشر الوعي في مجتمعات افريقيا السوداء. وكانت قضايا رفض الاستعباد ومناهضة الاسترقاق وحث الأفارقة الزنوج على عدم الهجرة والعودة لافريقيا والنضال لنيل حقوقهم المستحقة في المجتمعات الأخرى ورفض الاضطهاد.
من الأدب إلى السياسة
نشأت تبعاً لآيدلوجيا الزنوجة حركة أدبية وفنية وثقافية، وتيارات سياسية ومنظمات اجتماعية داعمة تبنّت هذه الآيدلوجيا وعملت على طرحها وغرسها في العقل الجمعي للجماعات الزنجية ما أمكنها ذلك.
الوحدة الأفريقية وميلاد الاتحاد
كتطوّر فكري وتاريخي، نشأت في 1963 حركة الوحدة الافريقية Pan-Africanism والتي تمخضت منها منظّمة تحمل الاسم، منظمة (الوحدة الافريقية)، والتي لاحقاً تحولت إلى منظمة (الاتحاد الافريقي).
منظمة الوحدة الافريقية كانت حركة أكثر عمقاً في المطالبة بالحقوق والتعبير عن الذات الافريقية (الزنجية) التائهة وسط غمار الأطماع والتحديات ووحشية الاستعمار، فاتخذت تلك الآيدلوجيا مسارات ردت فيها لافريقيا – فيما تدّعي ـ حقوقها الحضارية والتاريخية والثقافية الذاتية.
استرداد الهوية الإفريقية
رأت المنظمة أن للشعوب الافريقية في عمومها (وبالطبع الزنجية في خصوصها) إسهاماً عظيماً في التراث العلمي والثقافي والحضاري في العالم، وعليه تبنت المنظمة أن تعود لافريقيا هويتها في التعبير عن ذاتها والعمل على تطوير دول القارة ودعم وحدتها السياسية وتطورها الاقتصادي واستقرارها الاجتماعي.
كما سعت إلى ترسيخ الهوية الثقافية والاجتماعية لسكان القارة، والعمل على مخاطبة القضايا الكبرى التي تتشاركها مجتمعات افريقيا وتغض مضاجعها، بإدارة ذاتية بلا وصاية خارجية أو تسلط استعماري على موارد القارة ومكتسباتها.
الهوية أم العرق؟
إذن، وعطفاً على ما تقدم، نلفت نظر القارئ الكريم، إلى المفارقة الفلسفية بين (الهوية) و(العرق). فافريقيا (القارة) تحولت إلى (هوية) سياسية كلية تعبر عن ذوات متباينة تقطن على جغرافيا واسعة، فيها غالبية زنجية، فيها العرب، والأمازيق، والمجموعات الحامية السواحلية، فيها القبائل النيلية، وأعراق هندية ولاتينية وأوروبية.
لكن في العمق الاجتماعي، فافريقيا تملك (هوية) خاصة، تخصّ الأعراق الزنجية Negro أو ما يعرف بـ (افريقيا السوداء)، وهي التي أصبحت تحتكر التعبير الوصفي الاجتماعي المباشر لمفهوم (افريقيا).
اقرأ ايضا : السودان: عندما يصبح الانقسام خياراً عقلانياً للخروج من دوامة الحرب والانهيار
الجغرافيا تتحول إلى عرق
أي أن في مستوى ما، فالهوية الجغرافية لاسم القارة تحوّلت إلى هوية عرقية في النسق الاجتماعي، فحينما نقول: إن الفنانة الأمريكية الشقراء (…) تزوجت رجلاً افريقياً، فهذا يزرع في عقلك الباطني أنها تزوجت رجلاً زنجياً بالضرورة.
وعندما نقول إن منتخب إيطاليا أصبح به عديد من اللاعبين ذوي الأصول الافريقية، فهنا لا يذهب عقلك للقارة، بل للعرق، أي للهوية العرقية (البيولوجية). وعندما نقول إن زين الدين زيدان لاعب فرنسي من أصول عربية جزائرية، لا نقول إن زيدان من أصول افريقية.
بالتالي ترسخ في عقلنا الجمعي أن لافريقيا وصفاً اجتماعياً منحها بعداً عرقياً وبيولوجياً مباشراً، وهنا بالتالي تتحول (الجغرافيا) إلى وصف هوياتي خصوصي بأعراق معينة في النسق الاجتماعي.
الجغرافيا ومعضلة الهوية
وهنا نقول، إن العقل البشري يمكنه عبر الزمن والخبرات والمعارف، أن يتبنى مفاهيم جديدة غير موضوعية. فالموضوع هو أن آسيا قارة، وأوروبا قارة، وأمريكا اللاتينية قارة، أي أرض ضخمة، جغرافيا سياسية معلومة.
لكن حينما تقول: قابلت أمس رجلاً آسيوياً يعمل مقاولاً واتفقنا على صيانة المنزل، أو: ورد في الأخبار أن عصابة في ميانمار اختطفت سائحة أوروبية وطلبوا فدية، وغيره، فالعقل اللاواعي يمنح وصف القارة بعداً هوياتياً وعرقياً بلا تردد.
أي أن الأنساق الاجتماعية تتلبّس الجغرافيا السياسية وتعبر عنها، وتصبح للجغرافيا مدلولات فلسفية هوياتية أكثر من مجرد أنها جغرافيا لا تحتمل في أحشائها أعباء مفاهيم أخرى.
اقرأ ايضا : أرقام تعيد رسم حدود الدولة: دارفور والهامش الذي ابتلع المركز
ختاما
وهكذا يتّضح أن الهوية ليست مجرد وصف جغرافي أو انتماء عرقي صريح، بل هي نتاج تفاعل معقّد بين الوعي والتاريخ والواقع؛ فحين تتحوّل القارة إلى عِرق، وتُختزل الذات في لون، نفقد المعنى الأعمق للانتماء. إنّ الهوية الحقيقية لإفريقيا لا تُختزل في الزنوجة، ولا تُختصر في الأفريقانية، بل تتجلى في قدرة شعوبها على إعادة تعريف ذاتها خارج إملاءات المستعمِر وتصورات النُخب الغاضبة، لتصوغ هويتها الجامعة كجغرافيا عاقلة تتسع لاختلافها وتعتز بتنوعها.