مع تدهور الأوضاع الإنسانية والعسكرية في الفاشر، يبرز معسكر زمزم كأحد الرموز القوية للأزمة الأخلاقية التي تحيط بالحركات المسلحة وترددها في التدخل المباشر لحماية المدنيين. السؤال الذي يجب أن يُطرح هو: هل الحركات المسلحة تدافع عن قضايا الهامش حقًا، أم تستخدم المدن كساحات تصفية حسابات مع الجنجويد؟
مدخل: مدينة تتنفس الموت
منذ اندلاع الصراع في السودان في أبريل 2023، تحولت الفاشر – عاصمة شمال دارفور – و معسكر زمزم إلى واحدة من أكثر بؤر التوتر في البلاد. المدينة التي كانت حتى وقت قريب ملاذًا للنازحين الهاربين من بطش الجنجويد والمليشيات، أصبحت الآن محاصرة، جائعة، وغارقة في صراع مميت بين أطراف لا تعير للمدنيين أي اعتبار حقيقي.
سلاح الجو السوداني، الذي كان يستخدم لإيصال الإمدادات والدعم العسكري، أصبح عاجزًا عن الوصول إلى المدينة بسبب كثافة النيران الأرضية التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع. وبهذا، فإن الإمدادات التي كانت تصل عبر الجو – ولو على قلّتها – توقفت تمامًا.
الطرق البرية كذلك لم تعد صالحة؛ حيث تنتشر قوات الدعم السريع في محاور المالحة، جبل راهب، الصياح، ومليط، وهي مناطق استراتيجية تحيط بالفاشر وتمنع أي دخول أو خروج دون مخاطرة شديدة.
الخطر المزدوج: الجنجويد والحسابات الباردة ومعسكر زمزم
من ناحية، الجنجويد يمثلون تهديدًا وجوديًا معروفًا لكل من يخالفهم الهوية والانتماء، ولديهم سجل حافل من المجازر، لا سيما ما حدث في الجنينة من تطهير عرقي مروّع.
لكن من الناحية الأخرى، هناك معضلة لا تقل خطورة: الحركات المسلحة – وتحديدًا حركتي العدل والمساواة (جبريل إبراهيم) وحركة تحرير السودان (مني أركو مناوي) – اللتان ترفضان التدخل بفعالية لحماية المدنيين، وتتمسكان بخطاب سياسي خالٍ من أي التزام عملي تجاه الفاشر.
اقرأ ايضا: خروج حركات دارفور المسلحة قضية رأي عام : جريمة الدبة !
خمسة خيارات مرّة أمام المدينة

- تدخل عسكري واسع لفك الحصار
من الناحية النظرية، هذا هو الخيار الأمثل، حيث تُرسل قوات ضخمة لتحرير المدينة وتعزيز دفاعاتها وفتح خط إمداد دائم. لكن هذا السيناريو يحتاج إلى دعم لوجستي وجوي غير متاح حاليًا، فضلًا عن التنسيق بين الجيش والحركات، وهو أمر معدوم تقريبًا. - عملية إغاثة عسكرية محدودة
إرسال قوة صغيرة عبر الجو أو البر لتوصيل الإمدادات ثم البقاء داخل المدينة. هذا حل مؤقت لكنه قد ينقذ الآلاف من الجوع أو الموت جراء نقص الأدوية. - تسوية لتسليم المدينة
اتفاق مشروط مع قوات الدعم السريع لتسليم المدينة بلا قتال، مقابل إخلاء المدنيين والجيش، تحت ضمانات من جهات إقليمية كالسعودية أو الاتحاد الإفريقي. هذا خيار فيه الكثير من التنازلات، لكنه قد ينقذ الأرواح. - استغلال عرض الجنجويد لإجلاء المدنيين
مبادرة قوات الدعم السريع بنقل المدنيين إلى مناطق آمنة عبر قوات محمد حمدان (حجر) وعبدالله إدريس، تبدو مغرية ظاهريًا، لكنها تثير مخاوف مشروعة حول النوايا الحقيقية والضمانات المطلوبة. - الإبقاء على الوضع الحالي
لا تدخل، لا تسوية، لا مساعدات. فقط موت بطيء وانهيار مستمر. وهذا ما يحدث حاليًا للأسف.
رغم قدرتها على التدخل، إلا أن الحركات المسلحة تتخذ موقف المتفرج. وللأمر خلفيات اجتماعية وسياسية:
- الفاشر ليست مدينة “زغاوية”: تنتمي الحركتان الرئيسيتان (جبريل ومناوي) لقبيلة الزغاوة، بينما معظم سكان الفاشر من الزُرقة وغير الزغاوة (الفور، التنجر، البرقد، البرقو، وغيرهم). ولذلك، لا توجد رابطة عشائرية تدفعهم للتضحية من أجل المدينة.
- تكتيك الاستنزاف: الهدف غير المعلن هو إنهاك قوات الدعم السريع قدر الإمكان داخل الفاشر قبل أن تبدأ “المعركة الحاسمة” في وادي هور – معقل الزغاوة العسكري والسياسي في أقصى شمال دارفور. فالفاشر، في نظرهم، مجرد ورقة تكتيكية.
- غياب الثقة في المركز: الحركات المسلحة ترى أن البرهان وحكومته لن يصمدوا، لذا هم يحتفظون بقواتهم في نهر النيل والشمالية والجزيرة لحماية مكاسبهم السياسية التي حصلوا عليها في اتفاق جوبا 2020، ولا يرغبون في استنزافها بمعارك خاسرة.
الفاشر كمصيدة سياسية
الفاشر تحولت إلى ساحة لتصفية الحسابات، ليس فقط بين الدعم السريع والجيش، بل أيضًا بين الحركات المسلحة والسلطة المركزية. جميع الأطراف تنظر إلى الفاشر من منظور الربح والخسارة السياسي، وليس من منظورها الإنساني. في نهاية المطاف، هذه الحسابات قد تكلف المدينة دماء آلاف المدنيين، وتجعلها تكرارًا لمأساة الجنينة ولكن بصورة أكثر تعقيدًا.
الجيش: الانسحاب ممنوع، والبقاء مكلف
البرهان يعلم أن بقاء الجيش في مدينة محاصرة دون خط إمداد هو انتحار عسكري. ومع ذلك، لا يستطيع الانسحاب خوفًا من خسارة حلفائه من الزغاوة، الذين يعتبرون بقاء الجيش ضروريًا لاستنزاف قوات الدعم السريع. الجيش محاصر ليس فقط من قبل الجنجويد، بل أيضًا من قبل السياسة القبلية والتحالفات المؤقتة.
اقرأ ايضا: العودة إلى سنار : دعوة لتأسيس الحلم من الجذور
النازحون: رهائن بلا حماية
معسكر زمزم، أكبر معسكرات النازحين في شمال دارفور، أصبح ساحة لتكدّس البؤس. آلاف الأسر محاصرة بلا ماء، بلا طعام، بلا دواء. معظم من في المعسكر هم من النساء والأطفال وكبار السن، يعيشون على القليل من المساعدات التي كانت تأتي من منظمات دولية، معظمها أوقفت نشاطها أو غادرت بسبب خطورة الأوضاع.
لا الجنجويد، ولا الجيش، ولا الحركات المسلحة، ولا الحكومة في المركز، ولا حتى المجتمع الدولي، يتحمل مسؤولية حقيقية تجاه المدنيين في الفاشر. الجميع مشغول بحساباته… بينما يموت الناس بصمت.
عبدالرحمن عمسيب
12 أبريل 2025
فيديو التحليل الكامل – يتناول بالدقة كيف تسهم الحركات المسلحة في تفاقم الوضع الإنساني في الفاشر بدلًا من احتوائه.